كم سيكون سعر برميل البترول خلال شهر؟ لا أحد يعلم. فالأسعار تنخفض بشكل سريع. ومن المرجح أن يتواصل الانخفاض لمستويات غير مسبوقة، دعت البعض لنعى النفط كسلعة مرتفعة الثمن والذى يمر بأسوأ أوقاته فقد كان هذا اسبوعا قاسيا لأسواق النفط، إذ هوت الأسعار لأدنى مستوى منذ 7 سنوات وبلغت 39 دولارا للبرميل للمرة الأولى منذ ديسمبر 2008، وسط تحذيرات من وكالة الطاقة الدولية من أن الأسعار مرشحة للمزيد من التراجع بسبب التوقعات بأن يتم إغراق السوق بإمدادات أكثر من الطلب العالمي، وسط تباطؤ اقتصادى فى آسيا، ومساع أمريكية للاعتماد على النفط الأحفوري. وهناك العديد من الأسباب الموضوعية التى تقف وراء تدهور أسعار النفط، وخسارته نحو 50% من قيمته السوقية مقارنة بعام 2014 على رأسها تراجع الطلب العالمى وكثرة المعروض. لكن هناك أيضا أسبابا لا علاقة لها بالسوق أو آلياته، بل بلعبة عض الأصابع والسير على حافة الهاوية فى إطار صراع سياسى أوسع فى الشرق الأوسط والعالم. ففى مطلع عام 2014 كانت أسعار النفط تتراوح بين 120 و130 دولارا للبرميل. وكان لارتفاع الأسعار أسباب موضوعية من بينها أن الإنتاج النفطى للكثير من دول الشرق الأوسط شهد تراجعا حادا بسبب العقوبات الاقتصادية أو الاضطرابات الداخلية أو سيطرة تنظيمات وميلشيات على حقول النفط أو انهيار البنية التحتية للإنتاج النفطى بسبب الحروب أو الغزو الخارجي. فليبيا على سبيل المثال وبعد الإطاحة بالنظام الليبى السابق وما تبعه من حالة من الفوضى وغياب مؤسسات الدولة والانقسامات الداخلية وإنتشار الميلشيات التى سيطرت على حقول وموانئ للنفط، إنخفض انتاجها من 1.4 مليون برميل يوميا عام 2011 إلى نحو 150 ألف برميل يوميا فقط. أما سوريا التى كان انتاجها النفطى قبل الحرب الأهلية نحو 400 ألف برميل يوميا، فتنتج اليوم نحو 25 ألف برميل يوميا، بينما الكثير من حقولها النفطية إما فى يد تنظيم (داعش)، أو تم تدميره خلال المواجهات المسلحة مع عناصر المعارضة. ومن ناحيته، تعرض العراق لحصار وعقوبات اقتصادية مؤلمة مطلع التسعينيات، ثم للغزو الأمريكى عام 2003، ثم كان ضحية حرب داخلية عنيفة. وخلال تلك العقود، تدهور الإنتاج النفطى العراقى بشكل كبير بسبب إنهيار البنية التحتية للصناعة النفطية العراقية، ما ادى إلى توقف أغلب الحصة العراقية فى سوق النفط والتى تقدر بنحو 10% من الإنتاج النفطي. وفى نفس الفترة تقريبا، فرض المجتمع الدولى عقوبات مشددة على إيران استهدفت خصوصا قطاعها النفطي. كما أدت الحرب فى سوريا إلى إعاقة بيع إيران نفطها عبر الأراضى السورية إلى المتوسط. إذن غزو العراق والحرب الداخلية التى أعقبت ذلك، والعقوبات على إيران، والحرب فى ليبيا والصراع فى سوريا كلها أدت إلى قلة كبيرة فى المعروض النفطى العالمي، ما ساهم فى ارتفاع أسعار النفط، وصولا إلى بلوغ سعر البرميل نحو 120 دولار قبل نحو العام. ربما كان هذا أفضل ما حدث لشركات النفط الأمريكية فبسبب تراجع إنتاج الكثير من دول المنطقة وارتفاع أسعار النفط، وجدت الشركات الأمريكية الفرصة ملائمة للترويج لفكرة اعتماد امريكا على نفطها المحلى بدلا من الاعتماد على نفط الشرق الأوسط. وشرعت فى إنتاج النفط الأحفورى كبديل لنفط المنطقة وهى خطوة كان الرئيس الأمريكى باراك أوباما متلهفا عليها. فاكتفاء أمريكا من النفط المحلى كان أحد الأهداف التى وضعها على أجندته منذ وصل البيت الأبيض 2009. لكن فى غضون عام واحد تراجعت أسعار النفط بصورة سريعة. وأحد العوامل الأساسية وراء هذا هو أن إيران بصدد الرجوع للسوق النفطية بكامل قوتها مطلع 2016 وذلك مع الرفع المتوقع للعقوبات المفروضة عليها. ويعتقد على نطاق واسع أن هناك نحو 30 مليون برميل نفط إيرانى محملة على سفن وشاحنات وجاهزة للتحرك إلى الصين والهند وكوريا الجنوبية فور رفع العقوبات عنها. عودة إيران للسوق النفطية، والعودة التدريجية للعراق بعد إصلاح جزء من بنيته النفطية التحتية، وتمسك دول الأوبك وعلى رأسها السعودية بعدم خفض مستويات الإنتاج الحالية والتى تبلغ نحو 30 مليون برميل يوميا، بينها نحو 10 ملايين برميل تنتجها السعودية، ساهم فى تراجع أسعار النفط بنحو 50% منذ يونيو الماضي. ما أدى إلى انكماش فى عائدات الدول المصدرة للنفط من1.2 تريليون دولارعام 2012 إلى 400 مليار دولار فقط هذا العام. ووفقا لتقرير للبنك الدولى فى أغسطس 2015، فإن عودة إيران للسوق بكامل قوتها ستعنى ضخ ما لا يقل عن مليون برميل إضافى يوميا ما يعنى خفض سعر البرميل بنحو 10 دولارات ليصل إلى 30 دولارا للبرميل. وبرغم أن هناك خسائر اقتصادية مؤكدة لكل الدول المصدرة للنفط بسبب تراجع الأسعار، إلا أن هناك مكاسب سياسية من ترك الأسعار تتدهور ل39 دولارا للبرميل. فالمكسب السياسى الأول هو مواصلة الاعتماد الأمريكى على نفط الشرق الأوسط. فمع الانخفاض الحاد فى أسعار النفط الخام، خفضت شركات النفط الأمريكية من اعتمادها على النفط الأحفورى لأنه أكثر تكلفة من شراء النفط الخام. وأغلقت مناطق الإنتاج المكلفة، بدءا من "إيغل فورد" فى الولاياتالمتحدة، وحتى روسيا وبحر الشمال. فالأولوية اليوم لدى اوبك هى طرد منتجى النفط ذوى التكلفة العالية من السوق، مثل شركات انتاج النفط الصخرى الأمريكي، لأن ذلك أفضل وسيلة للأعضاء فى أوبك، وعلى رأسهم دول الخليج، للحفاظ على حصتهم فى سوق النفط، مما يعزز الالتزام الأمريكى بالشرق الأوسط، ويحفظ المكانة الحيوية للمنطقة فى الإستراتيجية العالمية. أيضا من المكاسب السياسية المؤكدة للانخفاض الحالى لأسعار النفط، قطع الطريق على تمتع إيران بعوائد مالية هائلة. فأحد أكثر الأسباب إثارة للقلق لدى دول الخليج من الاتفاق النووى مع إيران، هى العوائد النفطية الضخمة التى ستعود على إيران بعد رفع العقوبات عنها وكيف ستستخدم طهران هذه العوائد. ولكن أسعار النفط ليست مرتبطة فقط بالصراع فى الشرق الأوسط، بل بالخلافات الأمريكية -الروسية فى أكثر من ملف. والواقع أن الكثيرين يربطون إغراق السوق بالنفط، بالرغبة فى الانتقام من روسيا بسبب مواقفها فى سوريا وأوكرانيا. فروسيا، وهى ليست عضوا فى الأوبك حذرت المجموعة من مواصلة إغراق السوق العالمية بالنفط. فهناك يوميا نحو مليون ونصف مليون برميل إنتاج فائض عن حاجة السوق. وقالت روسيا، فى رسالة ضمنية لامريكا وحلفائها فى الخليج، أنها أعدت ميزانيات للسنوات السبع المقبلة على أساس استمرار سعر النفط بدون ارتفاع عند حاجز ال40 دولارا للبرميل. والرسالة الروسية هى أنها قادرة على تحمل انخفاض أسعار النفط لعقد قادم، وذلك بعد تعويم الروبل الروسي. ومن جانبها تؤكد منظمة اوبك إنها ليست منظمة سياسية، لكن التطورات الأخيرة فى سوق النفط، والطريقة التى يستخدم بها النفط كأداة لتسوية صراعات المنطقة تؤكد ما هو معروف: النفط بالنسبة للشرق الأوسط كان دائما نعمة ونقمة.