«الأسئلة البديهية تلك التى نجيب عنها دائما بثقة، دون أن نفكر فيها، كم هى مخيفة فى بساطتها». هذه الكلمات كتبها الرجل الذى أهدى الإنسانية صورة جديدة للكون، وكانت أفكاره سببا فى أن يحاكم ويقضى حياته رهن الإقامة الجبرية حتى موته. الكون قبل جاليليو كان منقسما الى عالمين، عالم إلهى خالد فى السماء وعالم إنسانى زائل على الأرض. صورة الكون التى قدمها لنا الرجل كانت تحول كوكبنا الكبير العامر بالتاريخ الى حبة رمل صغيرة، تسبح فى صحراء من مجرات ممتدة بلا نهاية، إنها صورة بالغة القسوة، وكى تتجنب الكنيسة، مواجهة هذه الحقيقة الجارحة التى تهز ثوابتها، وتهين كبرياءنا البشرى، لجأت إلى المصادرة والإنكار، ومحاصرة العقل بالتحايل على اللغة، دفاعا عن المسلمات. كانت هذه الصدمة مقدمة لنقلة تاريخية فى دور الأفكار، وفى طرق طرح الأسئلة، فلم تعد مهمة المفكر والعالم بعدها، تأكيد المعارف المشتركة، أو تأصيل المعتقدات السائدة، أو الدفاع عن الهوية، أصبح المثقف مشغولا بطرح الأسئلة الجديدة والمقلقة، وإعادة النظر فى المسلمات، وبتهيئة العقول للتفكير خارج أى يقين مسبق. لنا نحن أيضا علاقة بهذه الأسئلة التى تبدو بسيطة فى البداية، وهناك لحظات فى تاريخنا، تؤكد أننا قد أسهمنا فى تطوير الأفكار الانسانية، وقدمنا اجابات أصيلة تخصنا: فهنا تم اختراع الضمير والدولة والتأريخ والخلود والتوحيد والحساب والرهبنة، فى تاريخنا أيضا مواقع ثقافية نفخر بها من بينها جامعة الإسكندرية التى تخرج فيها إقليدس أبو الهندسة، ومكتبة الأسكندرية القديمة ودار الحكمة التى كانت تضم آلاف المخطوطات والكتب فى الفلسفة والطب والرياضيات وفقه اللغة إنها علامات تثبت أن المصريين قد فكروا بإقتدار. ولكن يبدو أن عقودا طويلة قد تلاحقت علينا دون اسهامات جادة ، وكأننا أخترنا الانسحاب، ولسبب ما توقفنا عن التفكير. عندما يتوقف التفكير تطفو المقولات المطمئنة، ويتم تداولها كحقائق مطلقة، ولدينا فى مصر الآن عدد وافر منها ومن بينها على سبيل المثال: مصر قائدة الأمة العربية، مصر بلد الأمن والأمان، ومصر مازالت هبة النيل، الأزهر منارة الإسلام الوسطى، نحن شعب متدين، مصر مقبرة الغزاة، الطفل المصرى أذكى اطفال العالم. سأتوقف هنا أمام مقولة واحدة كمثال، نظرا لضيق الحيز، وهى المقولة التى ترى أننا شعب متدين بطبعه، ولا أعرف كيف تعايش هذا الشعب المتدين بطبعه، مع كل اشكال الفساد وشارك فى صنعها، ولماذا يتهرب هذا المصرى المتدين جدا من العمل، ويوقع مكانه زميل آخر، وكيف يتفشى الغش الجماعى هكذا بين طلابنا وبمساعدة الأهل، وكيف يبيع هذا الشعب المتدين صوته لمن يدفع أكثر، وكيف نكون من أكثر متابعى المواقع الجنسية على شبكات التواصل، ونصبح مع تديننا موطنا للتحرش العنيف، ولم كل هذه الحالات من زنا المحارم وتزويج القاصرات مقابل المال. والتخلى عن الابناء، واجبارهم على الهروب الى الشوارع بهذه القسوة؟ لا يمكن لعاقل أن ينكر أن الدين حاضر دائما فى حياتنا، ولكن علينا أن نتأمل متى وكيف ولماذا يتم استدعاء الدين بهذه الكثافة فى حياتنا اليومية. محاولات كثيرة بذلت لفهم طبيعة أزمة عقلنا المصرى إما بوصفه حالة خاصة، أو داخل دائرة عجزنا العربى الأوسع. وهناك ما يشبه الإجماع على أن فشل مشروع التحديث، هو الأطار الجامع لكل اشكال العطل، سواء فى المعرفة والثقافة، أو فى العلم وفى طبيعة العمران، ويصعب هنا التوقف أمام الأمثلة: هناك من يرى أن الاستبداد هو مرضنا المزمن، وان النظم القمعية التى حاربت العقل وفرضت رؤية واحدة على الجميع، منعت تطور الأفكار، لخوفها من نمو وعى مضاد، وهناك من يرى أن لدينا مشكلة فى آلة التفكير نفسها، وأن الأزمة تبدأ من تكوين بنية العقل العربى ذاته. ويرى آخرون أننا ضحية مؤامرات تاريخية وتعطيل متعمد للوعى، فرضته علينا قوى خارجية، لتواصل التحكم فى مقدراتنا: الأمبراطورية العثمانية، الاستعمار الاوروبى، الهيمنة الأمريكية. واخيرا هناك من يجد غايته فى خلل علاقة الفرد بالجماعة فالمجتمعات التى تضغط الأفراد بثقلها ورغبتها الملحة فى التجانس، فتمنع صعود الأفكار الفردية الى مستويات قد تهدد مسلماتها المطمئنة، فتمارس العقول المفردة الرقابة على نفسها، وتقوم بعملية اخصاء ذاتى للأفكار من البداية. بعيدا عن الأسباب، هناك إجماع على ضعف الوعى وندرة الأفكار وعلى تبعية عقولنا، بالمعنى الواسع للكلمة: التبعية للماضى أو لثقافة الغرب او لنفوذ سلطة سياسية أو لقوى اقتصادية متنفذة. الغريب أن دعوات التفكير خارج الصندوق تلاحقنا، وتتردد كثيرا على ألسنة المسئولين عندنا، رغم أننا بداية لم ننعم لابحرية التفكير ولاالتعبير، وتطالب هذه الدعوة العقول المصرية بالقفز خارج الإطر المعتادة. وهنا يبرز بالضرورة السؤال: وماذا لو فكرنا فعلا خارج الصندوق وانتقلنا الى حيز التنفيذ؟ ما قيمة الأفكار التى سنأتى بها، ونحن لا نملك سوى هذا التنين الإدارى القديم، القادر على تحنيط أى حياة، وأخماد أى طموح. وهل يقبل هذا الدولاب العاجز عن القيام بمهامه الأساسية، أن يتعامل مع الجديد وغير المسبوق. التفكير كما قال جاليليو يعنى أن نبحث بشجاعة عن اجابات جديدة، على تلك الأسئلة البسيطة، وأول خطوة فى اتجاه التفكير، هى التوقف عن ترديد مقولات فقدت معناها. واقعنا مؤلم بالفعل ويصعب النظر اليه فى عريه، بلا زخارف بلاغية، خارج القلعة المهولة من المبررات التى نغطى بها عجزنا، فهل سننجح كما نصحنا جاليليو فى مقاومة ميلنا المصرى الدائم الى تغطية الجروح بالكلمات، وهل سنتمكن يوما ما من التعرف على حالنا، مهما تكن قسوته؟ أنهاخطوة أولى صعبة ولكن لا مفر منها، فمواجهة كل تلك التحديات تتطلب منا النظر بلا خوف الى عين الوحش مباشرة . لمزيد من مقالات عادل السيوى