لم يكن مولد الرسول صلى الله عليه وسلم فى عام الفيل، الذى شهد اندحار قوى الشر ممثلة فى أبرهه وجيشه مصادفة، وإنما بشارة من المولى جلت قدرته بعهد جديد للإنسانية، عهد تتحرر فيه من ظلمات الباطل، وتثور على ألوان الظلم لتحقق العدالة، وتتبع قائد أتى برسالة ربانية فيها خلاص البشرية وصلاحها «لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم». جاء الرسول صلى الله عليه وسلم فى مجتمع ضل طريقه، وعم فيه الظلم والفواحش، فحاربه كبارهم خشية على مواقعهم، وعرف اليهود نبأ بعثته فأنكروه حسدا وحقدا أن يجئ النبى من وسط وغيرهم، فتأمروا ضده، برغم معرفتهم بالصفات الدالة عليه، حيث روى (عطاء بن يسار قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله عنهما فقلت: أخبرنى عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى التوراة، قال: أجل، والله إنه لموصوف فى التوارة ببعض صفته فى القرآن «يا أيها النبى إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا، وداعيا الى الله بإذنه وسراجا منيرا»: وحرزا للأميين، أنت عبدى ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب (سخاب: الرجل كثير الصخب الذى يعلو صوته) فى الأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم الملة العوجاء، بأن يقولوا لا إله إلا الله فيفتح بها أعينا عمياء، وآذانا صماء، وقلوبا غلف). ونجاح محمد عليه الصلاة السلام فى نشر دعوته وتغييره الشامل لقيم وسلوكيات مجتمع بدوى خشن، يتصف أفراده بغلظة القلب، وترقيقه هذه الغلظة، وتحويله الى مجتمع متحاب، يسوده التراحم وتترابط قلوب البشر فيه عبر الأخوة فى الله، كان محل دراسات أعيت مفكرى الغرب القدامى والمحدثين، وسر حيرتهم أنهم لم يستوعبوا القرآن الكريم، والتالى لم يدركوا أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان خلقه القرآن، فسما به القرآن الكريم عن كل آفات النفس البشرية، وأكسبه من الصفات الخيرة، ما جعل الناس يتخذونه قدوة، إذ كان عليه الصلاة والسلام أرحم الناس بالناس، وأسخاهم وأعدلهم وأكثرهم تواضعا وحلما وإنكارا للذات، يقبل على الدنيا بأقل مقدار ويؤثر غيره على نفسه، يسير فى الأسواق ويفترش الأرض كأى شخص عادي، يخصف نعليه ويرقع ثوبه بنفسه، ولا يخجل من حلب الشاة لأهله. ومن نماذج تواضعه عليه الصلاة والسلام أنه كان فى سفر ذات مرة فاعتزم وأصحابه ذبح شاة، فقال أحدهم: يارسول الله على ذبحها، وقال آخر: وأنا أسلخها، وقال ثالث: وعلى طبخها، فقال صلى الله عليه وسلم: وعلى جمع الحطب، فقال أصحابه: يارسول الله نكفيك العمل، فرد صلى الله عليه وسلم: أكره أن أتميز عليكم، فالله يكره من عبده أن يراه متميزا عن أصحابه. هذه القصة ومثيلاتها تكشف سر نجاح محمد عليه الصلاة والسلام فى نشر دعوته، ومواقفه العظيمة الراقية مع غيره، فالتواضع لله والرحمة حتى مع من يعاديه ويؤذيه، جعلت أعداءه قبل أصحابه يوقرونه، ففى غزوة أحد شج وجهه، فقال له صحابته: هلا دعوت عليهم يارسول الله، فرد صلى الله عليه وسلم: إنى لم أبعث لعانا ولكن بعثت داعيا ورحمة،اللهم أهد قومى فأنهم لا يعلمون. هذا هو رسولنا الكريم وتلك أخلاقه عليه الصلاة والسلام، فأين نحن منها اليوم!. لمزيد من مقالات أسامة الالفى