مرتادو الحديقة العامة يتبدلون عليه كل يوم، يذهبون ليأتى غيرهم. إن كثيرين منهم لو أتى مرة ربما لا يعاود الثانية طوال حياته، إلا هذين العاشقين اللذين أعتادا أن يأتيا إلى الحديقة كل جمعة و لم يتخلفا عن الحضور لسنوات ! «تصوير تصوير»... بصوت جهورى يطلقها وهو يمضى بقدمين متثاقلتين على مدار اليوم يجوب الحديقة بشعره الأبيض كالثلج و قلبه الأبيض كالحليب و وجهه الأسمر الممتلئ بالتجاعيد، ويعتلى رأسه «كابه» الأزرق و يعلق فى رقبته كاميرته الفيلمية . لا يلبث يمر كل بضع دقائق فى ممرات «الحديقة» ليعرض على مرتاديها التقاط صور لهم على مقربة من التماثيل الرابضة فى مداخلها، أو برفقة من يحبون، أو بجوار الورد و الرياحين المبللة بقطرات الندى و الماء. هو لا يعرض عليهم التصوير كتصوير مجرد, بل واقع الحال هو يدعوهم إلى أن يقتنصوا لحظة يوقفون خلالها مجرى الزمن ليبقى متوقفاً معهم للأبد ! يجلس العاشقان عصر كل جمعة فى تماه, ذات جلستهما المعتادة تحت ظل شجرة «البونسيانا», فى ذلك الركن القصى الذى يبعد كثيراً عن أعين المارة لكنه لا يبعد أبداً عن عين كاميرته التى تتقن القنص، يلتقيان و كل منهما يهيم حباً و شوقاً فى عينيّ الآخر و كأنه يراه لأول مرة و هو يغوص فى بحر عينيه !. يتناولان الشطائر و يحتسيان الشاى والمثلجات و قد أخذا ينقشان على العشب الأخضر قلباً كبيراً يحوى اسميهما، ثم ينحتان جذع شجرة «البونسيانا» العتيقة ذات الورد الأحمر، ويخطان عليه على وقع تغريد العصافير بخط رقيق كلمتى «أحبك للأبد», ثم ينحتان بجانبها التاريخ، حتى أن محيط الشجرة «المنحوتة» صار أشبه بدفترعاشق يعج بالحب الخالد، ثم يناديان فى طقس معتاد «عم فوزى» ليلتقط لهما صورتهما جانب «صفحة الجذع» و هما يلتصقان ببعضهما فى تناغم و انجذاب متبادل كانجذاب نحل للرحيق، يقوم بعدها باستخراج صورة «الزمن الذى توقف» بعد ساعتين أثنتين على الأكثر! إنه لم يشهد فى حياته مثل هذا الحب الصادق, الذى يشبهه و يذكره بنفسه، بعشقه لمحبوبته التى رفض أهلها أن يرتبطا معاً, وظل حتى اللحظة على العهد معها, لم يتزوج بغيرها و هى أيضاَ لم ترتبط بغيره ! لقد أهدته محبوبته كاميرته هذه على سبيل الذكرى لحظة فراقهما القدرى, ووضعت عليها ملصقاً كتبت عليه بخطها الرومانسى الرقيق «أحبك للأبد!», حتى أنه اعتزازاً بها رفض من يومها أن يستبدلها بكاميرا «ديجيتال» حديثة ! إن الذى أستوقفه كثيراً أن الحديقة العامة هذه, بل الحدائق بشكل عام, دأبت على أن تشهد النزوات و اللقاءات العابرة فقط، لكن هذين العاشقين النادريّن غيرا معتقدات ظنها تجذرت بداخله و حُفرت بأعماقه، لقد كان قبل أن يعرفهما قد فقد الأمل تماماً بوجود الحب الحقيقى جراء ما شاهده, حتى خًيّل إليه أنه ذهب بغير رجعة، إلا أنه بعدما التقاهما شعر بأنه يعانق روحه من جديد، أيقن أن الحب والوفاء للمحبوب سيظل فى هذا العالم حياً لا يموت ! توالت الأسابيع و العاشقان لم يحضرا, لا فى نفس موعديهما و لا فى غيره، لقد خلا مكانهما بجانب الجذع,كما تخلو للناظر سماء معبأة بالغيوم من النجوم,غاب الحب الحقيقى بغيابهما، تساقطت أوراق «البونسيانا» بعدما شحبت و أصفرّت و كأنها تئن من لوعة الغياب. تُسائله نفسه: ما الذى حدث لهما؟ هل توجا حبهما بالزواج ثم سافرا خارج البلاد، أم أنهما انتقلا إلى حديقة أخرى ؟!.. ظلت تلك الأسئلة تحاصره و تطرق رأسه إلى أن واتاه ذلك المساء الذى لا يُنسى ! كان ذلك مساء يوم جمعة, فإذا به و هو يمر وسط ورد الحديقة مروره المعتاد و قد أخذ يجول بناظريه بحثاً عن زبائنه، إذا به على حين غفلة تعترضه «شوكة» آلمت روحه, حين تفاجأ بتلك الفتاة المحبوبة تجلس مع شخص آخر و هى تطالع صفحة عينيه بذات نظرات الحب الساهمة رغم تغير العينين اللتين أدمنت النظر فيهما ! . بعدها بأيام قلائل وجد نفس الشاب «محبوبها» يجالس فتاة أخرى و يشنف آذانها بكلماته المعسولة التى لطالما تناهت لمسامعه وهو يمطر بها محبوبته -التى كانت- كل جمعة ألف مرة ! و الذى أدمى قلبه النازف أكثر أنهما طلبا منه - و بلا مبالاة- أن يمارس مهنته و يلتقط لهما الصور من جديد ! .هنا شعر بغصة أدمت قلبه و أثارت حنقه، قرر على أثرها أن يودع مهنته تلك و يكابد ما تبقى من حياته، كان صعباً عليه فراق محبوبته الكاميرا، بيد أنه لم يشأ أن يلوثها بتلوثات بنى البشر، ودعها دون الذهاب لغيرها كما هى عادته، بل ظل وفياً لها مطوقاً بها عنقه ! قرر «عم فوزى» اعتزال التصوير بغير رجعة، لأنه كان و ما زال و سيبقى يؤمن بأن هناك لحظات فارقة فى حياة الإنسان لا تتكرر, كلحظات الولادة و لحظات الموت ولحظات الحُب...!