خلال الثمانية عشر يوما الأولى لثورة 25 يناير 2011، وما تلاها من فعاليات، وصولا إلى مشهد الثورة فى 30 يونيو 2013، شهد ميدان التحرير من شعارات الثورة حجماً يتجاوز كل الأرقام القياسية التى يمكن أن تحفل بها موسوعة (جينيس)، عابراً كل حواجز الخيال، ليصدر حالة كلامية تعبر بالدرجة الأولى عن روح بيانات (أحمد سعيد) التى كان يبثها عبر (إذاعة صوت العرب) عام 1967. تلك البيانات التى طالما تحدثت عن نصر ساحق على قوات العدو الصهيوني. وهنا تتجلى العلاقة الحقيقية بين خطاب إعلام يونيو67، وبين الخطابات الثورية لميدان التحرير خلال فعالياته على مدى أكثر من ثلاثين شهرا. غير أن المثير للدهشة هو أن الشعب استيقظ صبيحة هزيمة 1967، من أوهام بيانات (أحمد سعيد)، واستوعب الجميع درس النكسة التى تفرض (التنبه)، وتستوجب توحيد الصفوف لمواجهة العدو الذى احتل جزءا من الوطن. لكن شعب ميدان التحرير الثورى حين تلقى أولى انتكاسات (خطابه الثوري) عقب استفتاء التعديلات الدستورية (مارس 2011)، التى حولت الحالة الثورية المدنية إلى صراع عقيدي، وخيار دينى بين (نعم) التى تقود للجنة، و(لا) التى تسوق إلى النار، لم يقر بأى هزيمة ولم ير فى أفق شعاراته الثورية ما يبدد صفاء أحلامها، وتمادت مكونات الحالة الثورية المصرية فى أحلامها البريئة تارة والتى تدعى البراءة تارة أخرى، وقرر الجميع أن ثمانية عشر يوماً من النضال فى ميدان التحرير كافية لتكون مشروعاً ثورياً كلامياً تجسده البرامج الحوارية وتشكيلة الائتلافات الثورية والأحزاب السياسية، حيث تحولت مدرسة الشعارات الثورية الحالمة إلى كيانات أميبية يلد أحدها الآخر، سرعان ما ينشق عن المولود الجديد آخر ينافسه على رقعة تضيق بالمتنافسين عليها وتضج بالأمانى وتتضاد فى المصالح. وهكذا ظل تنظيم الإخوان وحلفاؤه، فى هذا المحيط الزاخر بالانقسامات، وحده الذى كان يعرف غايته، ويملك لها رؤية استراتيجية تسعى لاستثمار براءات الأحلام، وتغازل أمانى الأحلام غير البريئة، وتفتت ما يظهر من أحلام، وحده تنظيم الإخوان الذى كان يملك تنظيماً يتحرك وأذرعاً تناور وتقَسِم وتُغرى وتُغوي، ولهذا استطاع التنظيم أن يورط الدولة بكل مكوناتها فى (متاهة أحلام ثورية وردية)، ليصنع أزمات يتاجر بها ظلت مصر خلال عام من حكم الإخوان تبحث عن سبيل للخلاص من أسر تنظيم ينتشر فى مفاصل الدولة سرطانا يستولى على كل شىء مستهدفاً استيلاب الوطن هوية ومقدرات ودين، وبينما كان الوطن يضج بكيانات سياسية وثورية بعضها حالم وأكثرها باحث عن دور، كان عموم الناس أول متنبه لخطر حكم التنظيم، وكان التنظيم هو الأقوى عدداً وعدة ومنهجا وعقيدة، بحث رجل الشارع المصرى فى كل مكونات الواقع ليتمسك بمشروع يواجه به المشروع التنظيمي، فلم يجد غايته فى اليمين ولا فى اليسار، ولم ينل ثقته مشروع ثورى شبابى من كل عناوين المطروح. ولذا انتخب الشعب شعاره المرحلى فى معركة التحرر متجردا من كل أشكال الحلم الثوري، ومتخلياً عن أمانى المشروع الثورى الإصلاحى المتكامل، ليجسد شعاره الآنى (يسقط حكم المرشد)، ويردد مع ثوار 1919 (تحيا مصر حرة مستقلة)، كان عموم الخلق فى وطننا يرون فى التنظيم خطرا يستوجب التحرر منه بإسقاط حكمه أولاً ثم الالتفات لما أتلفته عصور الفساد والإفساد لإصلاحه. وتحرك الشعب بيقين ارتكانه إلى تنظيم يحميه هو (الجيش) فى مواجهة تنظيم إلاخوان وحلفائه، وحقيقة الأمر أن كل مكونات الواقع الثورى والسياسى لم تطرح على واقع الناس من مشاريع التوحد فى مواجهة التنظيم الإخوانى ما يُطمئنهم أو يحوز ثقتهم ليثوروا استناداً عليه. وكما لم يستيقظ شعب ميدان التحرير من أحلام الشعارات الثورية رغم كل انتكاسات ما قبل 30 يونيو 2013، لم يستيقظوا حين قرر الوطن أن يخوض معركته نحو استرداد الدولة فى ظل استهداف تام من التنظيم الدولى وبمعاونة أجهزة كبرى ودول أكبر، وراح (شعب ميدان التحرير) يستعد ليخوض معاركه الجديدة مشكلاً فى فراغ أفقها، من شعارات الأمانى ما تتجاوزه تهديدات ثبات الدولة نفسها. إن هذا الواقع الذى يرصده المقال، يطرح نفسه بقوة على واقع مصر قبل 25 يناير 2016، فى ظل محاولات حثيثة تقوم بها كل أذرع التنظيم الدولى داخلياً وخارجيا لاستدعاء حالة ما قبل 25يناير 2011، استدعاء يتجاوز المتاجرة بالأزمات إلى صناعتها ليتم المتاجرة بها، واستدعاء يُفَعِّل كافة الأمانى الثورية البريئة ضمن خطة كلية سماها التنظيم (خطة إفشال الدولة)، واستدعاء يستثمر الأداء التقليدى والموَرِط من قبل قطاعات عريضة فى الجهاز الإدارى للدولة لتأليب الرأى العام محليا وعالمياً ضد مصر الوطن قبل مصر النظام. وهنا يطرح الواقع الوطنى الخالص على كل مكونات الحياة المصرية خاصة السياسية والثورية تساؤلاً مصيريا (ماهو مشروع البناء الذى تحملون لمواجهة مشاريع الهدم الجارية على ساحتنا؟)، إن هذا التساؤل يتجاوز مجرد مشاريع البناء الخاصة بالوطن ككل، ليصل إلى مشاريع البناء المرتبطة بتوسيع القواعد الحزبية أو النقابية أو العمالية أو الفنية والثقافية، التى هى أولى أدوات امتلاك القوة فى صناعة رأى عام يشارك فى الدفاع عن الوطن ويعمل على المساهمة فى ضمان بيئة يدخل معها الوطن فى مرحلة تثوير الدولة لتحقيق المبادئ الأصيلة للثورة المصرية (عيش حرية عدالة اجتماعية كرامة إنسانية)، إن الوصول لهكذا رؤية لتفعيل (شعارات الثورة الحالمة)، يجنبها الاستثمار من قبل كل المتربصين بهذا الوطن، ويوقظها من غفلة (الثائرين نياماً) إلى تنبه (الثائرين بناءً). وللحديث بقية. لمزيد من مقالات عبد الجليل الشرنوبى