«ست الحسن» صاحبة مطبخ على الهواء، وجدتها على الشاشة ، فقررت أن أتابع برنامجها لأقارن بين ما تقدمه من وصفات غذائية وبين توصيات مؤتمر القلب عن قواعد الصحة العامة والغذاء الصحى فأصابنى الإحباط، فقد شاهدت «ست الحسن» وهى تقدم صينية بطاطس وخلطت خمس أنواع من المواد الغذائية التى حذرت توصيات مؤتمر القلب من الاقتراب منها، ثم غطتها بطبقة من السمن والدهون والزيوت وثلاثة أنواع من الجبن ولونت هذا الهرم بصلصة ودفعت هذه القنبلة فى الفرن.. ولا أدرى أى ست بيت تتحمل ميزانيتها ومعدتها هذا الخليط.. وهل يكفى الاعجاب والفرجة بالبرنامج ليحصل الهناء والشفاء؟ فرغم عودتى سعيدا من مؤتمر القلب بما حصلت عليه من توصيات تقى من أمراض القلب، منتشيا بالتحليل الاجتماعى الواعى الذى ألقاه الدكتور جلال أمين، أدندن بأغنية «يافؤادى لا تسل أين الهوى» وأدرت الريموت كونترول فصدمتنى القنابل التى تعدها «ست الحسن والعجين» لتدمير قلوب وأجساد المصريين رغم نصائح الطب والدين صارت كل هذه المعايير أمام هذه الخلطة الفضائية «صرحا من خيال فهوى»... وبعد إعجابى بالتقليد الرائع الذى استنه مؤتمر القلب بتكريم رواده الراحل الدكتور محمد عطية والدكتور فايز فايق، استمتعت بمحاضرة الدكتور جلال أمين عن مسببات «ما طرأ على المركز النسبى للطبقات والشرائح الاجتماعية صعودا وهبوطا» خلال الستين عاما الماضية، ورغم أنه قال إن محاضرته لا علاقة لها بأمراض القلب إلا لكونها صادرة عن رجل له قلب، لكن المتتبع لأوجاع قلوب المصريين يجد أنها ناتجة عن الضغط العصبى وأمراض السكر ومعاناتهم ووراؤها الحراك الاجتماعى القسرى وثورة التطلعات التى يغذيها الاعلام الاستهلاكى كما شرحها فى محاضرته وفى القلب منه برامج التغذية التى يسيل لها اللعاب! وحدد الدكتور جلال أمين دوافع الحراك الاجتماعى بعد ثورة 1952 فى ثلاث مراحل: فى المرحلة الأولى: من منتصف الخمسينات والستينات كانت دوافع الحراك الاجتماعى محصورة بشكل اساسى فى التوسع فى مجانية التعليم ودخول الجامعة والاصلاح الزراعى والتنمية الصناعية والالتحاق ب«المؤسسة العسكرية والعمل فى السد العالى» وكان الحراك نتيجة التعليم الذى ارتبطت به فرص العمل والترقى، أما المرحلة الثانية فكانت فى السبعينات والثمانينات مع استمرار تدفق خريجى التعليم الجامعى أضيف اليها بعد الانفتاح الاقتصادى العاملون فى خدمة «الأجنبى» وتوكيلات الشركات والتصدير والاستيراد ولم يقتصر التميز على الدخل لكنه امتد الى استخدام لغة «الاجنبى» وعاداته فى الزى والسلوك، ومن دوافع الحراك الهجرة الى دول النفط وارتفاع معدل التضخم، وحدث انفصام بين الجهد والمساهمة فى الانتاج وبين العائد الضخم من فرص الاستثمار البعيد عن التنمية الإنتاجية، وتجارة الأراضى والتضخم وأسعار الشقق ساهم فى صعود طبقة من الفهلوية بسرعة الصاروخ، وهبوط طبقة أخرى بنفس السرعة متخمة بالإحباط، وانتشرت القرى السياحية فى الساحل الشمالى والبحر الأحمر والاسمنت المغشوش كما ظهرت أنماط غريبة من الاستهلاك الاستعراضى فى الأفراح وتعمد استئجار الراقصات المشهورات بسعرهن العالى، وعودة الحرفيين المهاجرين بأنماط استهلاكية أعلى ثمنا وغير مألوفة. أما المرحلة الثالثة من الحراك الاجتماعى فقد تسبب فيها إضافة إلى استمرار العوامل السابقة ندرة فرص العمل والكسب حتى كادت تنعدم أمام الملايين من خريجى الجامعات، بعد أن رفعت الدولة أيديها عن التعيين، واعتمدت على الفتات الذى يوفره القطاع الخاص والتجارى مع تزايد التطلعات الاجتماعية وإسالة اللعاب على كل مايشبع الغرائز والبطون مع انخفاض معدل النمو، حتى فاز بالكعكة الانتاجية عدد قليل يتميز بالخفة والشطارة والقدرة على الاقتراب من دائرة السلطة. والنتيجة .. إحباط وأمراض فى القلب والضغط والسكر.. ومؤتمر ينظمه معهد القلب القومى وجامعة عين شمس يدق ناقوس الخطر ويقدم برامج لإعادة تأهيل مرضى العمليات الجراحية وتوصياته تحذر من الافراط فى الأكل والكوليسترول والسمنة واتباع أسلوب رشيد فى الغذاء والرياضة والامتناع عن التدخين والحذر من الدهون والكربوهيدرات والزيوت المغلية.. لكن يبدو أن هذاالمؤتمر فى واد غير ذى أضواء وتتكفل بتشويه توصياته صفحات الافساد الاجتماعى عبر الفيسبوك، بينما يبقى التليفزيون القومى بعيدا عن هذه المحافل تاركاً الفضائيات الخاصة تنفرد بشحن بطارية التطلعات وإسالة اللعاب على كل ماهو مثير وغريب ومشبع الى درجة التخمة .. لكن .. وما العمل ومن أين نبدأ؟ سؤال الحيرة من الشباب الى الدكتور جلال أمين وكانت إجابته: العلم والعمل .. التى جسدها انعقاد ثلاثة مؤتمرات طبية فى الفندق فى نفس الوقت، انهمك خلالها عشرات من شيوخ وشباب الأطباء فى مناقشات هدفها: فى المؤتمرالأول صحة القلب، والثانى لراحة الصدر والثالث لمكافحة الربو. وأن تعود الدولة الى دورها تستفيد من الخبرات الوطنية، ولا تترك المواطن فريسة لشركات تنهب البلد بنفس سرعتها فى تدمير صحة المواطنين! ولخص الدكتور جلال جانب من الأزمة وقال إننى حصلت على الدكتوراه من «لندن سكول» وموضوعها «مشكلة الغذاء وعلاقتها بالتنمية الاقتصادية» وعندما قررت العودة عام 1964 تخيلت أنهم سيحملونى من الطائرة الى رياسة الجمهورية للاستفادة بتخصصى وعندما لم أجد أحدا فى انتظارى بالمطار قلت فى نفسى لعلهم يتركونى يومين أو ثلاثة لأستريح ثم يستدعونى، وبدأت أستعد وجهزت رؤية لمستقبل الغذاء والتنمية فى بلدى وكتبتها فى خطوات تنفيذية محددة.. وانتظرت اربعة أيام وأسبوع.. ومر حتى الآن خمسين سنة ولم يتصل أحد! لمزيد من مقالات أنور عبد اللطيف