بعد سنوات طويلة...تصل مع بداية العام الجديد إلى 144 عاما كانت ومازالت كلية دار العلوم هى الصرح الذى استطاع أن يحمى اللغة العربية، ولهذا نعتبرها كلية فريدة من نوعها، أنشئت بفرمان الخديو اسماعيل الذى استوعب تجربة باريس التعليمية، وكانت البداية فى قاعة بدار الكتب حيث أُطلق على هذه القاعة اسم «دار العلوم». يقول د. حامد طاهر عميد كلية دار العلوم الأسبق: إن فكرة دار العلوم كانت جديدة تماما على المجتمع المصرى، الذى مرت عليه قرون متعاقبة، وهو لايعرف سوى العلم اللغوى والدينى، الذى كان يدرس فى مركز التعليم الوحيد لديه، وهو الأزهر الشريف، فأراد على مبارك بتنفيذ هذه الفكرة ان يضع أساس التقدم العلمى الحقيقى، الذى لا ينهض بجناح واحد من جناحى العلوم، كما انه لايستمر بدون مواجهة الواقع الجديد بما ينشأ فيه من علوم مستحدثة. مازلنا مع د. حامد طاهر الذى أورد في كتابه (دار العلوم رائعة على مبارك) يؤكد: إن المحاضرين كانوا من كبار الأساتذة المصريين فى ذلك الوقت, إضافة للأجانب ومعظمهم فرنسيون، يلقون محاضراتهم باللغة الفرنسية، ثم يتولى أحد المدرسين المصريين بالترجمة للعربية. أما الحاضرون فكانوا من كبار موظفى الحكومة، وموظفى نظارة المعارف ومدرسيها، وطلبة المدارس العالية، وفريق من طلبة الأزهر, وكان على مبارك يحضرها بنفسه مما كان له الأثر الكبير فى تحويل فكرة دار العلوم إلى مدرسة نظامية، وخاصة حين طُلب من شيخ الأزهر ترشيح عشرة من نجباء طلاب الأزهر يحضرون بعض دروس دار العلوم (العربية والشريعة، ويربط لكل منهم خمس وعشرون قرشا إعانة لهم من ديوان الأوقاف. ولهم الحق فى حضور الدروس الأخرى كالفلك والطبيعة، ويُنتخب منهم المدرسون عند الحاجة). كما أن بعض أساتذة الأزهر شاركوا فى التدريس لهؤلاء الطلاب بدار العلوم. والمعروف أن على مبارك هو من تقدم بمشروع مدرسة دار العلوم إلى الخديو إسماعيل فى 30 يوليو سنة 1872جاء فيه: وقد تلاحظ أن المشتغلين الآن بوظيفة التعليم فى اللغة العربية والتركية ليس فيهم الكفاية بالنسبة لذلك. فإن وافق الحضرة العلية ينتخب قدر خمسين من نجباء الطلبة من سن العشرين إلى الثلاثين، يؤخذون بالامتحان ممن يرغبون ذلك و يوجد فيهم الأهلية واللياقة. وأصدر الخديو مرسوما بالموافقة على تنفيذ فكرة على مبارك بكل تفاصيلها. وبدأ العمل فى مدرسة دار العلوم سنة 1872 مكونا من 32 طالبا، وخمسة مدرسين ، منهم ثلاثة من علماء الأزهر. وأول من تخرج فيها هو الشيخ إبراهيم السمالوطى. كانت فكرة دار العلوم هى الحل الأمثل للجمع بين القديم والجديد. وكان محمد عبده من أشد المعجبين بفكرة دار العلوم، وشارك فى هيئة التدريس بها فترة من حياته، ولكن طه حسين انتقدها وطالب بضرورة انضمام دار العلوم إلى جامعة القاهرة أسوة بغيرها من المدارس العليا التى ضمتها الحكومة إلى الجامعة. وفى عام 1950 تصدر لائحة جديدة خاصة بالدرجات العلمية التى تمنحها الكلية، وهى: الليسانس فى اللغة العربية وآدابها، والدراسات الإسلامية، و الماجستير و الدكتوراة. وفى عام 1951 تقرر أن يقبل فى دار العلوم الطلاب الحاصلون على الثانوية العامة (القسم الأدبى)، بالإضافة إلى ما يقرب من مائة طالب حاصلين على الثانوية الأزهرية. وفى عام 1952 قُبلت الطالبات بالكلية، وحضرن فى البداية وحدهن لفترة (فى المعهد العلمى الفرنسى المجاور للكلية)، ثم جلسن مع الطلاب بعد ذلك، حتى أن عدد طلاب كلية دار العلوم قد بلغ ما يقرب من عشرة آلاف طالب وطالبة منذ 22 عاما. وللقصة رواية أخرى يعرفها د. الطاهر أحمد مكى وجاءت متضمنة بمجلة الهلال فى مقال صدر فى أغسطس 1982 حيث قصد على مبارك فى الأساس النهوض باللغة العربية، ولهذا عهد بتدريسه إلى شيخ أزهرى كفيف، يجيد الفرنسية، ويقرأ بطريقة اللمس وتعلمها فى المدرسة التى أنشأها الخديو إسماعيل لتعليم العميان وهو الشيخ حسن المرصفى، ثم كان حمزة فتح الله المولود فى الاسكندرية والمنحدر من أصول مغربية ودرس بالأزهر, ليتخطيا معا عصور التخلف وعادا إلى عصور العربية الزاهرة. رسالة تنويرية: ومع هذا التاريخ الطويل نواجه بواقع يأخذ من بريق هذه الكلية ويجعلها اختيارا ثانيا وليس أول كغيرها من الكليات. ومع هذا يؤكد د. عبد الراضى عبد المحسن وكيل كلية دار العلوم أن الكلية مازالت تحمل على كتفها الرسالة التى أنشئت من أجلها، فهى تربى الأجيال على الوسطية الحضارية والثقافة العلمية، وتجمع بين الأصالة والمعاصرة، والكلية بشكل عام تتبنى الفكر التنويرى، وفى الوقت نفسه هى راعية للتراث الدينى والأدبى واللغوى. لهذا يمكننا أن نطلق عليها لقب كلية دراسات الوسطية، ومحاربة الفكر المتشدد والمتطرف، ولا يحسب عليها تخريج بعض المتطرفين، أو ذلك الذى يفسر نصوص القرآن بغير صحيحها. فالكلية متماسكة الدراسة تنظر لكل المستقبليات. كما تميزت باستقبال طلاب من جهات محددة سنويا بعد أن سجل بعض الطلبة تدهورا شديدا فى مستواهم التعليمى حتى أن نتائجهم فى السنة الأولى هى الرسوب, مما جعل مجلس الكلية يراجع أوراقه. ويكفى أن عدد طلاب الكلية بلغ نحو 11 ألفا، كما أن هناك نحو ألف طالب بالدراسات العليا، وبلغت جملة الرسائل العلمية نحو ألف و200 رسالة، مما يدل على أن هذه الكلية مازالت جاذبة من حيث العلم والثقافة. فالطالب يمتلك ناصية التراث والدراسات اللغوية والأدبية والبلاغية والدينية، وفيها مناهج البحث والمدارس الفكرية المعاصرة، وفى نفس الوقت لا تنعزل الكلية عن المجتمع والبيئة ، فهى من خلال طلابها تسهم فى محو الأمية بمنطقة بين السرايات وما جاورها بالتعاون مع هيئة تعليم الكبار، وتتحمل الكلية جزءا من مصروفاتها. المجموع وانطباعات أولية ويشير الطالب محمد شاكر بالفرقة الرابعة بالكلية ونائب رئيس اتحاد الطلاب السابق أن أغلب الطلاب يلتحقون بالكلية بسبب المجموع، حيث قبلت مستوى 75%، ثم يكتشفون قيمة الدراسة بالكلية ويحبونها، ويقرأون تاريخها الوطنى، فيحس الطالب أنه مميز عن طلاب الكليات الأخرى، فدراسته متنوعة وتشمل المجالات الثقافية والسياسية واللغوية وهى مجالات تفاعل ويكفى أن شهادة الكلية هى ليسانس اللغة العربية والشريعة الإسلامية، فهى كلية الدنيا والدين معا، ومجالاتها متنوعة بين العمل بالتدريس والصحافة والإعلام، بل إن الخريج يتميز بثقافة مرنة وعصرية تسمح له بالعمل فى معظم المجالات. كما أن هناك أنشطة تحرص عليها الكلية مثل ورشة الصحافة والندوات الثقافية، ومعارض الفن التشكيلى، و تتميز الكلية بترابط أبنائها وحرصهم على تقاليدها المتوارثة، وكل تلك الأنشطة قضت على وجود التيارات المتطرفة تماما خاصة بعد الوعى السياسى الذى شهدته مصر فى المرحلة الأخيرة. وتضيف الطالبة رانيا محمد بالفرقة الأولى بالكلية أنها برغم حصولها على الثانوية العامة شعبة رياضيات، اقتنعت بدخول هذه الكلية بعد أن قرأت تاريخها العريق ووجدت أنها التحقت بقلعة علمية متميزة، ولأنها أول كلية فى مصر، لذلك كتبتها الرغبة الأولى فى التنسيق لدراستها الشيقة جدا فهى تتناول جذورنا الثقافية والدينية، وفى نفس الوقت كل مستحدث من فكر وثقافة الغرب، لذلك فهى كلية نادرة الدراسة فى المنطقة، كما يتميز طلابها بالتعاون فى صورة أسر، فلا يوجد أى مشكلات بينهم، وكذلك مع الأستاذة الحريصين على الانتظام وتشجيعنا للاطلاع والبحث فى المنهج، ولنتشبه بالعمالقة الذين تخرجوا فى الكلية وأسهموا فى مجالات العلوم المختلفة والسياسة واللغة.