يحتل مصطفى كامل في تاريخ مصر وفي تاريخ حركتها الوطنية موقعاً مرموقاً. فهو أحد الأبطال التاريخيين الذين نهضوا بمصر بعد فشل ثورة عرابي واحتلال الإنجليز لمصر، وأسّسوا لحركة وطنية رفعت منذ البداية شعار الاستقلال مرفقاً بشعار جلاء القوات الإنجليزية عن مصر. أهمية تلك النهضة التي كان مصطفى كامل أحد أبطالها أنّها جاءت في زمن الخيبة التي تولّدت من الحدثين المشار إليهما، فشل ثورة عرابي واحتلال الإنجليز لمصر. وأجدني مسوقاً للاستشهاد بفقرتين من مقدّمة عبد الرحمن الرافعي للكتاب الذي كرّسه لمصطفى كامل، تعبِّران بوضوح عن تلك الحقبة وصعوباتها وعن دور مصطفى كامل في نضاله المبكر للخروج منها إلى الحرية. يقول الرافعي: «وطنيّة مصطفى كامل كانت أقوى من الجيل الذي ظهر فيه، وأقوى من العوامل المثبطة. فأخذ يثابر على دعوته، ويناضل عنها، حتى استجابت الأُمّة لندائه. فكانت نهضة، وكانت حياة، وكان شعور، وكان جهاد...وإذا كانت الدعوة الوطنية التي دعا إليها وناضل من أجلها قد صارت بعد ثمانية عشر عاماً من جهاده طبيعية محبَّبة إلى النفوس، فإنّ الطريق إليها كان شائكاً... والروح التي بعثها مصطفى كامل في الأُمّة هي التي مهّدت السبيل لثورة سنة 1919». فمَنْ هو مصطفى كامل؟ وُلد مصطفى كامل في عام 1874 في مدينة القاهرة في حي «الصليبة». وكان والده ضابطا ومهندسا ملكيا. وكان حريصا على تربية أولاده على الاستقامة التي كانت من سماته. وكان ذلك حال والدته. عهد والده إلى فقيه لكي يعلّمه القراءة والكتابة في منزل العائلة وهو في سن الخامسة من عمره. وفي سن السادسة أدخله والده في «مدرسة والدة عباس الأول» الابتدائية. توفي والده وهو لا يزال في المدرسة الابتدائية. فأحدث ذلك عنده حزنا عظيما. فكفله شقيقه الأكبر حسين باشا واصف الذي صار فيما بعد وزيرا للأشغال. أنهى مصطفى كامل دراسته الابتدائية في عام 1887 ونال الشهادة في احتفالٍ كبير حضره الخديوي توفيق. انتقل بعد ذلك إلى المدرسة التجهيزية. وبرزت مواهبه التي كانت البداية في التعبير عن شخصيته في تلك المرحلة من دراسته التي صار يُعرف بها فيما بعد. وقد تعرَّف في ذلك الحين إلى علي مبارك أحد الشخصيات الوطنية المعروفة وكان وزيرا للمعارف. فقال له بعد أن اكتشف بعض مواهبه «إنّك امرؤ القيس»، وبشّره بأنّه سيكون شخصية مهمة في تاريخ مصر. في عام 1891 نال شهادة البكالوريا الثانوية وانتقل إلى دراسة الحقوق في المدرسة الخديوية. وبعد نجاحه في السنة الأولى من دراسته انتقل إلى مدرسة الحقوق الفرنسية جامعاً في دراسته بين المدرستين. وحصل على شهادة الحقوق من الجامعة الفرنسية في مدينة تولوز في عام 1894. كان مصطفى كامل لا يزال في المرحلة الثانوية من دراسته عندما بدأ يمارس نشاطه السياسي باسم وطنيته التي كانت تتكوّن عنده بسرعة. كان في السادسة عشرة من عمره عندما غمره شعور قوي يدعوه إلى القيام بواجبه إزاء وطنه. فأسّس مع عدد من أصدقائه جمعية أدبية ووطنية سمّاها باسم المنطقة التي وُلد فيها «جمعيّة الصليبة الأدبية». وكان إلى جانب تلك الجمعية جمعية أخرى تحمل اسم «جمعية الاعتدال». وكان مصطفى كامل يحضر الاجتماعات التي تعقدها ويتعرّف فيها إلى الشخصيّات التي ترتادها وصار يدعوها لزيارة جمعيّته. ولم تمضِ ثلاثة أشهر حتى صار أعضاء جمعيته سبعين عضوا. وكان يلقي مساء كل يوم جمعة خطابا في أعضاء الجمعية ومن يأتي إليها من الزوّار ليتحدّث في الشئون الوطنية العامة. وبدأ منذ ذلك الوقت يراسل الصحف. كان نشاط مصطفى كامل في تلك السنة المبكرة من عمره وفي ذلك الزمن الصعب الذي أشرت إليه المتمثّل بفشل ثورة عرابي واحتلال الإنجليز لمصر، دليلا واضحا على نضوج مبكر في وعيه وفي شعوره الوطني العميق. فهو كان يرى منذ ذلك الوقت أنّ اليأس ممنوع وأنّ الإحباط لا يقود إلاّ إلى الاستسلام للواقع القائم. وكان يرى بوعيه الوطني المتقد أنّ الأُمّة بحاجة إلى مَنْ ينهض بها من كبوتها، وأنّ النهضة تفرض العمل على إيقاظ المصريين إلى مسئولياتهم في الدفاع عن وطنهم. وفي ظل هذا الوعي المبكر تكوّنت شخصيّته الوطنية الفذة. كانت مشاعره الوطنية تقوى وتشتد كلّما كان يكبر. وكان وهو طالب في مدرسة الحقوق يسعى للتعرُّف إلى كبار شخصيات مصر في ذلك التاريخ. وكان ممّن تعرَّف إليهم من تلك الشخصيات الشاعر إسماعيل باشا صبري وعلي بك فخري والشاعر الشيخ علي الليثي وأمين باشا فكري وآخرين ممّن كانوا أعضاء في مجلس شورى القوانين. وانتقل في السنتين الأولى والثانية من دراسته في مدرسة الحقوق إلى مدينة الإسكندرية حيث التقى بشارة تقلا أحد مؤسّسي جريدة الأهرام بواسطة صديقه شاعر القطرين خليل مطران. ونشأت بينه وبين تقلا علاقة صداقة أهّلته لأن يبدأ في نشر مقالاته ومراسلاته في الأهرام. كما كان ينشر بعض مقالاته في جريدة « المؤيد». وبدأ في عام 1893 بإنشاء مجلّة أعطاها اسم «المدرسة» التي بدأت تصدر في مطلع كل شهر. وجعل لها شعارا ثابتا «حبك مدرستك حبك أهلك ووطنك». كانت أولى زياراته إلى فرنسا في عام 1894 ليؤدّي امتحان السنة الثانية في الحقوق باللغة الفرنسية في مدينة تولوز. وزار باريس وبروكسل، وراسل الأهرام من هناك. كثف مصطفى كامل، استنادا إلى وطنيته الأصيلة، نشاطه في الدفاع عن وطنه مصر وعن حقّها في الاستقلال، مستندا في ذلك إلى التاريخ القديم والحديث لمصر، ساعياً بكل الوسائل لكسب الأصدقاء من كل جهات الأرض في المعركة من أجل الاستقلال والجلاء». وصار يسافر إلى أوروبا لكسب الأصدقاء للقضية المصرية. وفي عام 1895وجّه من فرنسا نداء في شكل صورة رمزية قدّمها إلى مجلس النواب تمثّل مصر وهي ترسف في قيود الاحتلال وتستصرخ فرنسا للمساعدة على تحريرها مثلما ساعدت أمريكا وإيطاليا واليونان وبلجيكا على نيل حرياتها. وقد أحدث ذلك النداء دوياً في الأوساط الفرنسية وفي الأوساط المصرية في الداخل والخارج. وأجرى في الآن ذاته حديثا في جريدة «الجورنال» الفرنسية عن مصر وعن المسألة الوطنية المصرية. وألقى في العام ذاته (1895) خطابا مدويا في مدرج كلية الآداب في مدينة تولوز.. وظلّ يسافر إلى فرنسا حاملاً معه قضيته الوطنية وآماله ومطامحه في الحرية والاستقلال. وكان لا يترك فرصة ملائمة إلاّ ويستغلها لطرح القضية المصرية. ولدى عودته إلى مصر في عام 1896ذهب مصطفى كامل إلى الإسكندرية ليلقي أول خطاب له حول موقفه الوطني حدد فيه برنامجه في النضال من أجل استقلال مصر ومن أجل الجلاء. وهكذا بدأت تكبر شخصيته وبدأ يصبح اسمه واحدا من رموز الوطنية المصرية الواعدة. وكان في كل خطبه وفي مقالاته وفي المبادرات التي كان يبتدعها حريصا على مكافحة الرضوخ لليأس والإحباط، عاملا بكل طاقاته لخلق نهضة وطنية مصرية شاملة. وكانت خطبته في التياترو الإيطالي في عام 1899 ذات دوي كبير في الأوساط الوطنية والشعبية، قال فيها: «إنّه كلّما تقادم هذا العهد تضاعفت واجباتنا نحو الوطن العزيز. فقد ظهر للعالم أجمع أنّ إنجلترا تعمل للاستيلاء على مصر ووادي النيل، وترمي إلى نزع كل سلطة من أيدي المصريين، وتحقق للعامة والخاصة أنّ المدنية الإنجليزية لا تعرف في سياستها مع الأُمم الضعيفة معنى للوعود والعهود، ولا ترعى حرمة للعدل والإنصاف». في عام 1899 أصدر مصطفى كامل جريدة «اللواء» وكانت تصدر يوميا حتى في يوم الجمعة، إلى أن بدأ يحجبها في يوم الجمعة ابتداءً من عام 1901. وكان يحرّر بنفسه افتتاحياتها. وكان من كتّابها محمد فريد وأحمد شوقي وخليل مطران وإسماعيل صبري ومحمد فريد وجدي. وتحولت الجريدة إلى مدرسة في الوطنية المصرية. وكان في خطبه وفي مقالاته في «اللواء» من أوائل من طالبوا بدستور مصري وبحكومة وطنية مصرية. ودعا في مقال له في «اللواء» في عام 1904 إلى إنشاء مجلس نيابي جاء فيه: «ليس للاحتلال مصلحة في إيجاد مجلس نيابي لهذه البلاد. ولكن صوت الأُمّة يعلو على صوته إذا تمسّكت به ودعت إليه وطالبت وجاهدت بقوة الرأي والفكر والثبات التي هي أكبر الوسائل الفعالة في حياة الأُمم. فلتفعل فإنما هي تخطو بالوصول إليه أكبر خطوة في طريق الاستقلال». في عام 1905 جمع خطبه في كتاب أعطاه عنوان «المصريون والإنجليز». وفي عام 1906 الذي وقعت فيه حادثة «دنشواي» الشهيرة التي سقط فيها مصريون على يد الضباط الإنجليز، ارتفعت وتيرة العمل الوطني، واتخذت أشكالا وصفات مختلفة. وكان مصطفى كامل من أبطال تلك اليقظة المصرية. والمعروف أنّ تأسيس الجامعة المصرية جاء في تلك الفترة، وكان سعد زغلول من أوائل من تولّوا وزارة المعارف في تلك الفترة. وتحولت القضية المصرية إلى قضية ذات اهتمام جماعي، الأمر الذي اضطر سلطات الاحتلال إلى تغيير بعض سياساتها. وكان عام 1907 عام الحدث الوطني الكبير الذي تمثّل بتأسيس «الحزب الوطني» برئاسة مصطفى كامل. وكان قد سبق تأسيس الحزب رسمياً تأسيس جمعية سرية باسم الحزب الوطني. وشارك في التأسيس في اجتماع عقد في منزل محمد فريد الذي تابع بعد وفاة مصطفى كامل المهمة ذاتها في قيادة الحزب. وشارك في التأسيس مصطفى كامل ولطفي السيّد ومحمد عثمان ولبيب محرم وشفيق عثمان. وكان من بين المؤسّسين الخديو عباس. وهي رواية استقيتها من السيرة الذاتية للطفي السيّد. في أعقاب تأسيس الحزب الجديد أصدر مصطفى كامل جريدتين يوميتين إلى جانب «اللواء»، الأولى بالفرنسية والأخرى بالإنجليزية للدفاع عن حقوق مصر وإطلاع الرأي العام العالمي على الشئون المصرية وردّ الافتراءات التي كانت تروجها سلطات الاحتلال. وأسّس من أجل ذلك شركة لتمويل الجريدتين. واختار لإدارة تحريرها من اعتبرهم أهلا لتلك المهمة من كبار الصحفيين. في عام 1908 توفي الزعيم بعد أن كان قد أسّس نهجا طيبا ثابتا ظلّ يتراكم تأثيره حتى عام 1919 عام الثورة المصرية الجليلة. تلك هي بعض التفاصيل التي تميّزت بها شخصية هذا الزعيم المصري الكبير الذي يذكر اسمه بين أوائل من أسّسوا لنهضة مصر الحديثة في مطالع القرن العشرين. ولا يسعني قبل أن أترك القلم إلاّ أن أقدّم للقارئ بعض كلماته الخالدة: «اشتراك الشعب في حكم نفسه سبب الرقي. من الشعوب مَنْ يسلّم زمام أموره إلى حكومته، ويجري طوع إرادتها. ومنها من يجعل للحكومة حدا في السلطة والنفوذ، ويراقبها مراقبة شديدة. إن أحسنت كفاها، وإن أساءت قضى عليها. فشعوب الشرق، من النوع الأول وشعوب الغرب من النوع الثاني. ولذلك كان الشرق في تأخُّر وانحطاط، وكان الغرب في تقدُّم وارتقاء. لأنّ الشعب هو في الحقيقة صاحب البلاد، وسيّدها، وحارس الوطن من كل الأخطار. وما الحكومة إلاّ وكيل عنه، تختار من نخبة أبنائه، ومن أشدّهم حرصا على مصالحهم». «إنّ الشعب هو القوة الوحيدة الحقيقية. على أنّنا لو تأمّلنا قليلا إلى ما أقيم في هذه البلاد من عظائم الأعمال، لوجدنا أنّ الشعب هو المنشئ له، والموجد لكيانه. فهؤلاء الأفراد الصغار، الذين لا يعبأ بهم الكبراء والعظماء، هم في الحقيقة قوام مصر، ومصدر نعمتها. ولولاهم ما عرفنا العيش أبدا. من المؤلّف للجيش؟ أفراد الشعب. ومن المكوّن للشرطة وحفظ النظام؟ أفراد الشعب.. ومن الموجد لمحصولات مصر وخيراتها؟ أفراد الشعب. ومن يُعيِّش العظماء والكبراء والأمراء؟ أفراد الشعب. فهم، دون غيرهم، قوام الوطن، ومصدر خيره ومجده وسعادته. فكيف يجحف بحقوقهم؟ وكيف يهانون؟ ألا ترى أنّ العظماء إنّما هم كذلك، لأنّ أفراد الشعب يحملونهم فوق رءوسهم، ويطيعون أوامرهم؟ وإلاّ فلو تحوّل الشعب ضدهم فماذا يفعلون؟ وهل يستطيعون مقاومته، أو يقدرون على الوقوف أمامه؟ كلا، ثم كلا ! إنّ الشعب هو القوة الوحيدة الحقيقية، وهو السلطان الذي يخضع لإرادته أكبر العظماء وأعظم الأقوياء... المساواة أمام الوطن. إنّ الناس سواء أمام الوطن، في الحقوق والواجبات. المواطنون متكافلون متضامنون. إذا ظلمت الحكومة أحدنا، ولم نعمل لردّ هذه المظلمة، كان ظلم الحكومة واقعا لا محالة على الجميع...». لمزيد من مقالات كريم مروَّة