يلقي طرفا العنوان بظلالهما على شخصية يعرفها التاريخ ويسجل أدوارها العظيمة في جلب الحرية وصنع الاتحاد الوطني ودحض خفافيش الظلام من الاستعمار والاستكانة في قبوله؛ يتكرر كثيرا عند الحديث عن السياسة والرموز الوطنية المناضلة في حقبة الاستعمار للمنطقة العربية وللعالم الإسلامي، وحفظت اسمه ذاكرة الأجيال؛ لكن ضاعت في ذاكرة المجتمع الحديث آثاره وأعماله كما ضاعت آثار عظمائنا؛ لكن تبقى يد التاريخ تدق ناقوس الذكرى به في العاشر من فبراير لكل عام، تاريخ وفاة زعيم الكفاح والقلم والإعلام الزعيم مصطفى كامل. بالأمس القريب: ولد مصطفى كامل في 14 أغسطس عام 1874، وكان أبوه -علي محمد- من ضباط الجيش المصري. تلقى مصطفى كامل تعليمه الابتدائي، ثم التحق في المرحلة الثانوية بالمدرسة الخديوية، وأسس فيها جماعة أدبية وطنية كان يخطب من خلالها في زملائه، وحصل على الثانوية وهو في السادسة عشرة من عمره، ثم التحق بمدرسة الحقوق سنة 1891م وأتقن اللغة الفرنسية، ثم التحق بكلية حقوق طولوز، ثم حصل منها على شهادة الحقوق. كان مصطفى كامل كثير الأسفار، وعانى من الأزمات الصحية حيث اشتد به المرض عام 1905م ولم يمضِ عامٌ على هذا التاريخ حتى وقعت حادثة دنشواي الشهيرة التي أعدم فيها الإنجليز عدداً من الفلاحين المصريين أمام أعين ذويهم. هذا الحدث جعله يقطع علاجه في باريس ويسافر إلى لندن ليكتب مجموعة من المقالات العنيفة ضد الاحتلال؛فكان ذلك سبباً في إعفاء اللورد كرومر واستقالته من منصبه معتمدا بريطانيًّا بمصر، والتقى مصطفى كامل هناك ب"السير كامبل باترمان" رئيس الوزراء البريطاني الذي عرض عليه تشكيل الوزارة؛ غير أنه رفض هذا العرض. وفي 22 أكتوبر 1907 عاد إلى مصر في حالة شديدة من المرض وألقى خطبة بالإسكندرية من أجمل وأطول خطبه أطلق عليها "خطبة الوداع"، وأعلن فيها تأسيس الحزب الوطني الذي تألف برنامجه السياسي من عدة مواد أهمها المطالبة باستقلال مصر كما أقرته معاهدة لندن 1840م، وإيجاد دستور يكفل الرقابة البرلمانية على الحكومة وأعمالها ونشر التعليم وبث الشعور الوطني؛ غير أن الجلاء والدستور كانا أهم مطالب الحزب. وقد توفي مصطفى كامل في 10 فبراير 1908م أي بعد أربعة أشهر من إعلانه عن تأسيس الحزب الوطني؛ ليتحول الحزب بعدها من حزب الشعب إلى الحزب الحاكم.
قطعة من ملابس الزعيم الراحل (صورة أرشيفية) مناضل على طريقة الإعلام: عاش الشعب المصري فترة من الخمول والإعياء وتضاؤل الروح الوطنية بعد القضاء على الثورة العرابية بوقوع مصر فريسة الاحتلال البريطاني عام 1882م، وضاعت حركة المقاومة الوطنية في نفوس أبنائها؛ حتى جاء إليها مصطفى كامل فأمسك بدفتي الحركة وهما الجلاء والدستور وأعادها إلى نصابها، ونادى بإنشاء الجامعات. وفى عام 1898 م ظهر أول كتاب سياسي له بعنوان "كتاب المسألة الشرقية" وهو من الكتب الهامة في تاريخ السياسة المصرية وفي عام 1900 أصدر جريدة اللواء اليومية. وإذا كانت المقاومة بالسلاح تؤتي ثمارها في أوقات الاستعمار، وإذا كانت المقاومة الاقتصادية لها ما لها من الخسف بالبنية التحتية للعدو؛ فإن المقاومة الإعلامية التي حمل لواءها مصطفى كامل هي أمضى سلاح في وجهة نظري؛ حيث تلفت الأنظار العالمية إلى فضائح العدو وظلمه واستبداده، وتعمل على تشتيت أفكاره ما بين دفاعه عن صورته واختلاق ذرائع لأعماله، وبين المضي قدما في مخططه الاستعماري. وهذا ما التفتت إليه الولاياتالمتحدة والكيان الصهيوني حديثا؛ بملاحقتها للقنوات الإعلامية التي تكشف خبايا مخططاتهم وأفعالهم. ولعل ما انتبه له مصطفى كامل كفرد؛ غفلت عنه مؤسسات كاملة أو منظمات مقاومة في عصرنا الحالي، أو لم تستطع الضرب على نفس نهج مصطفى كامل بالمزاوجة بين سياسة الإعلام وسياسة المواجهة؛ أنه بحث أولاً عن أدواته الإعلامية التي يستطيع بها تقديم عمل واضح بدبلوماسية وقوة في الآن ذاته؛ وركز عروضه على الجمهور الغربي -بينما أصبح إعلامنا منا إلى أنفسنا- فتوالت أحاديثه ومراسلاته ومقالاته إلى الصحف الأوروبية مثل الإكلير والجورنال وليبر باول الفرنسية واكتسر تاجبلاط النمساوية وذوي بوست الألمانية، وكان له مقال في الفيجارو حول حادث دنشواي 1906... إلخ. ثم أصدر صحيفتين يوميتين بلغات أجنبية واحدة فرنسية (ليتندار إجبسيان) والأخرى إنجليزية (ذي إجبشيان ستاندرد) للدفاع عن حقوق مصر وإطلاع الرأي العام الأوروبي عليها. كما كانت لمصطفى كامل صداقات وتواصل مع الجاليات الأجنبية التي تنقل إلى بلادها صورة مصححة عن الوطن العربي وعن دور الاستعمار والاحتلال، وكذلك صداقاته ومراسلاته مع الرموز الفكرية والسياسية؛ من ذلك مراسلاته مع مدام جولييت آدم الأديبة والكاتبة الصحفية الفرنسية، ومراسلاته مع جلادستون شيخ الأحرار في بريطانيا، ومع النائب الفرنسي جوزيف بويوسكي. وقد كان لدعايته أثر كبير في إحراج مركز الاحتلال وإبراز عدم مشروعيته ، وإحراج اللورد كرومر بإعفائه أو تقديمه استقالته من منصبه في مصر، كما كان لها صداها في مصر ذاتها؛ إذ كانت وسيلة لنشر الحركة الوطنية.
مصطفى كامل كان له دور كبير في الانتقام لضحايا دنشواي (صورة أرشيفية) ما أشبه الليلة بالبارحة: "إذا نظر الساذج إلى المسلمين وسكونهم وخلو بلادهم من ثورة وهيجان وحرب تذهب فيها النفوس وتسفك في أرجائها الدماء قال: هؤلاء هم السعداء الأبرار يعيشون في سلام ويموتون في سلام لا يخسرون في حياتهم أحداً ولا شيئاً، وما درى أن شر الموت موت العواطف والإحساسات، وأن الخسائر الحقيقية هي ليست تلك النفوس الطاهرة التي تذهب ضحية للوطن في ميدان الحروب والثورات؛ ولكنها النفوس التي يظن الرائي ذويها أحياء يحسون ويشعرون وهم أموات الوجدان والضمير. كم في المسلمين من أموات كهؤلاء الأموات، كم في بلاد المسلمين أشخاص لا يعرفون من الإسلام إلا عقيدة بسيطة وحركات معدودة، كم في المسلمين جهلاء قتل الجهل ذكاءهم.. هؤلاء هم الخاسرون في الدنيا والآخرة، وهم على الإسلام والمسلمين خسائر لا تقدر ولا تحصى" (من مقاله "الخسائر اليومية للمسلمين" والتي نشرت في اللواء بتاريخ 18/ 2/ 1901) انطلق مصطفى كامل في دفاعه عن وطنه الأم ثم وطنه الأكبر من فكرة غابت عن كثير منا في دفاعه عن وطنه وهي فكرة الانتماء؛ فقد أصبحت الفكرة لدينا أكثر تشويشاً؛ أهي دفاع عن الحياة أم عن الذات أم عن الوضع العام بحسب ما يحقق النجاح المؤقت للفرد. انطلق مصطفى كامل من الانتماء الكامل للأمة حتى وإن لم يحصد ثمار ما زرع. ينبهر مصطفى كامل بالإنجاز الياباني؛ لكن انبهاره كان دافعا له للتمسك بوطنه لا للتخلي عنه فألف كتاب "الشمس المشرقة"، وفيه يقارن بين خطى النهضة التي بدأتها اليابان عام 1904 وما تمضي فيه مصر من نهضة موا زية تبشر بشروق شمس إمبراطوريتين مصرية ويابانية، ويربط هذه النهضة بتوفر مناخ الحرية والرغبة في العلم، رافعاً شعاره المعروف أن الأمل في الحياة جعل اليابان تخرج من خسائرها في الحرب لتنهض من جديد، متمثلة في قوله "لا يأس مع الحياة ولا حياة مع اليأس". لقد أصبح المواطن المصري يخزى لحال بلده ويرى كل الهوان يحيط بها جراء الاستعمار الخارجي الفكري والثقافي والتبعي أو الاستعمار الداخلي؛ لكن الفارق بين مصطفى كامل والمصري اليوم؛ أن مصطفى كامل يشرف بانتمائه لهذا البلد، ثم يغرق هو ليبقى علم بلاده مرفوعا، أما المصري اليوم فإنه يدوس على رأس كلٍّ من ذويه وعلى اسم مصر ليبقى هو عاليا؛ ثم ها هو يبحث عن الهروب منها بعد نيل خيراتها.