أتى على الثقافة المصرية حين من الدهر احتلت فيه مكانا عليّا فى معظم مجالات العلم والمعرفة ، بدءا من الإبداع ،مرورا بالعلم والفكر، وانتهاء بتحقيق التراث، ذلك الفن الجميل الذى تراجع ولا نحس منه من أحد أو نسمع له ذكراً . فى القرن الماضى بهر المصريون العالم بمنجزهم البديع فى إخراج التراث وتحقيقه علميا ، وشاعت أسماء محققين عظام من أمثال الشيخين أحمد ومحمود شاكر، وعبد السلام هارون ومحمد أبو الفضل إبراهيم والإبيارى وآخرين من دونهم لا نعلمهم . وبهذه المقدمة كان لابد و أن نوجه سؤالين إلى أهل الاختصاص: الأول: إذا ما كانت هناك مدرسة مصرية صاحبة أسلوب مميز فى تحقيق التراث، فما أسباب تراجعها؟ والثانى هو كيف نعيد إحياءها ؟ فى البداية يقول شيخ المحققين د. حسين نصار الأستاذ بكلية الآداب جامعة القاهرة ومقرر اللجنة العلمية بمركز تحقيق التراث بدار الكتب المصرية: إننا لم نحافظ على الدفعة التقدمية التى بدأها أسلافنا رواد النهضة الحديثة بعزيمة وإصرار ، وأصابنا داء إرضاء الجمهور، وصرف النظر عما نقدمه من أعمال ذات قدر عظيم. وأضاف د. نصار: إننا للأسف الشديد نسينا أنفسنا ، وأصبحنا لا نعرف أننا عرب ، وكثير منا يستهين بالعروبة ، لدرجة أن بعضهم ينظر الى التراث نظرة احتقار ، ويطالب بالإلقاء به فى مجاهل التاريخ . واتهم د. نصار عهد مبارك بأنه السبب فى جعل كل شيء هادئا، الأمر الذى أصاب الثقافة المصرية ككل بالاستكانة ، مشيرا الى أن عملية تحقيق التراث من الصعوبة بمكان ، وتتطلب قدرا كبيرا من الصبر وقوة التحمل . وانتقد د. نصار عدم تقدير التراث والعاملين فى مجاله ، مشيرا الى أن الترقيات فى الجامعة لا تعتبر تحقيق التراث عملا علميا ، ولا تقدّره حق قدره . واختتم د. نصار حديثه، مؤكدا أننا لن نكون أبناء اليوم إلا إذا كنا أبناء الأمس، بقيمنا وأصالتنا وتاريخنا ، مطالبا بالاعتزاز بالتراث العربى الذى يجب علينا أن نجدده ولا نهمله . تراجع ثقافى عام أما الناقد الكبير د. عبد المُنعم تلّيمة الأستاذ بكلية الآداب جامعة القاهرة فيرى أن تراجع المدرسة المصرية فى تحقيق التراث يعود الى التراجع الثقافى العام الذى شهدته مصر ، بفعل احتكار الحكومات الشأن الثقافى، الذى جنى على الثقافة المصرية ، وأدى الى استبعاد أهل الاختصاص. وعن كيفية إحياء المدرسة المصرية الأصيلة فى تحقيق التراث ،يقول د. تليمة: أولا لابد من تنظيم المجال العام، ثم العمل على استقلال إدارة الحياة الثقافية . ويضيف د. تليمة: «برغم كل شيء ، فإن الآتى مبشر ، لأن الأمة مبدعة ثقافة ، ووجودها فى التاريخ الإبداعى راسخ ومستمر رغم التراجع المؤقت» . وردا على سؤال عمن يعوّل عليه فى إعادة مصر الى سابق مجدها الثقافى لاسيما فى مجال تحقيق التراث ، قال د. تليمة : أعوّل على كبار المثقفين خصوصا المتنفذين منهم. واختتم د. تليمة حديثه مطالبا بتأسيس أكاديميات ومعاهد ومراكز متخصصة تخرّج المحقق. رحيل عظماء المحققين أما د. جابر عصفور وزير الثقافة الأسبق وأستاذ النقد الأدبى بآداب القاهرة فيرى أن تراجع المدرسة المصرية فى تحقيق التراث سببه موت العمالقة الذين أثروا الحياة الثقافية بتحقيقاتهم البديعة . وأشاد د. عصفور بالأعمال التراثية والموسوعية الأساسية التى تم تحقيقها على أيدى هؤلاء العمالقة ، مشيرا الى أنهم حققوا أهم وأشهر أعمال التراث العربى ، ولم يبق إلا الأعمال الثانوية بحسب د. عصفور . وعن الأسباب الأخرى لتردى أعمال تحقيق التراث مقارنة بالماضى ، قال د.جابر إن ذلك مردّه انحدار التعليم العام والخاص ، وهو أمر ساعد - بحسب د.عصفور - على تنفير الأجيال الجديدة من هذا التراث الذى صار موضعا للتندر بسبب لغته الغريبة التى وصل الأمر ببعض ممثلى الكوميديا الى الهزء منها، وتحويلها الى مصدر للإضحاك . وأشار د. جابر الى أن تحقيق التراث هو أمر صعب يحتاج إلى دربة ودراية وعلم موسوعى ، مؤكدا أن من أصعب الأمور إعداد محقق جيد . وتابع د. عصفور : «للأسف لم يعد الدافع الى هجر التراث هو الجهل به ، والنفور من لغته الغريبة ، وإنما أصبح فعل تمرد ينطوى على الدافع الأوديبى لقتل الآباء والأجداد على السواء» . وقال د. جابر إنه مما زاد من تفاقم الأزمة استبدال الغرب الحديث بالتراث القديم ، والإقبال على الشعر الغربى المترجم الذى أصبح مصدر إلهام وتكوين لشعراء قصيدة النثر الذين يعرفون عن رامبو أكثر مما يعرفون عن أبى نواس ، وعن بودلير أكثر من أبى تمام ، وعن سانت جون بيرس أكثر من المتنبى أو أبى العلاء . واختتم د. عصفور حديثه مؤكدا أن الدفاع عن التراث خصوصا الإبداعى والأدبي- له أشكال وأساليب متعددة، منها الدفاع عن التراث بإبراز القيم المتجددة فى تراثنا الذى لا ينحصر تأثيره بفضلها فى عصر واحد، وإنما يجاوز عصره أو القرون الذى شهدته زمانا ومكانا الى غيره من العصور والقرون والأمكنة التى تمتد بامتداد الإنسانية كلها . وأنهى د. عصفور مؤكدا أن ما يحتاجه التراث الأدبى هو الممارسة العملية بالتقديم المتجدد له ، وبشكل تسيغه الأذواق المعاصرة .