ألح عليهم أن يقفوا علي الطريق, وأن يبدأوا الحركة, وأن يقبلوا بلا تهيب أو خوف أو ازدراء للنفس علي معانقة الحياة, حلوها ومرها هكذا كتب العظيم يحيي حقي موجها كلامه للشباب من المبدعين ذاكرا لهم: قبل أن تشغلوا أنفسكم غاية الشغل بتأليف قصصكم وتجويدها اشغلوها قبل ذلك بتحريك قدرة الذهن علي الفهم, والروح علي الاحساس وقال عنهم حقي أيضا ولكي يرفضوا شيئا ينبغي أولا أن يملكوه, والتجارب ليست بغسيل هدوم الأسياد, بالقراءة في حجرة مغلقة الأبواب والنوافذ, سيصبحون نسخة ميتة لأصل حي, فأصبح الكلام يخرج من أفواههم كشقشقة عصافير الببغاء لم يسقط منه حرف, ولكن الحديث غير مفهوم موضحا هذا هو البحر للواقف علي البر, أما التجربة فبالمعاناة, والمخالفة واقتحام الأمواج ................... وبالطبع رسالة حقي للشباب ولنا جميعا مهما كان تاريخ الرسالة هي معانقة الحياة.ما أصعبها من مهمة وتجربة وما أجملها من حق وانجاز. ولكي يتم تحقيق ذلك الهدف ونستمر في السير في ذلك الطريق والأهم أن نستمتع به لا بد من تحريك قدرة الذهن علي الفهم, وقدرة الروح علي الاحساس.. ولابد أيضا من خوض البحار واقتحام الأمواج. وهذه الكلمات بالمناسبة ليست لامتاع عين القارئ والهاء روحه ولا للتغني بجمال صياغتها.. وانما تعد وصفة تطرح أحيانا لتخرج بها ومعها النفوس( ان أرادت) من أحزانها وشللها.. وتتحرك وتنفعل وتتفاعل وتشارك وتبتهج وتمرح. وبالتأكيد ما تحمله الآداب والفنون وحكم الشعوب عبر العصور فيه ما يغذينا ويشحننا ويحيينا ويدفعنا دوما الي هذه المعانقة. وهذا ما تؤكده أبحاث علمية ودراسات بحثية عديدة وجديدة تحدثت ومازالت تتحدث عن العالم الذي قد نشكله بخيالنا والحياة التي لا بد أن نعيد بناءها بذاكرتنا..وكلها خطوات ومبادرات ومغامرات ضرورية لاستعادة أنفسنا وتهيئة تقبلنا للواقع وللبشر من حولنا. بالأمس القريب ودعنا شهر أكتوبر.. وودعنا معه الكاتب الكبير جمال الغيطاني. وبالنسبة لمن تركنا مع كتاباته وأحلامه وأحزانه ظل أكتوبر1998 يحمل حزنا عميقا طال أمده وفراقا صعبا لم تداوه الأيام.. اذ احترقت المسافرخانه. كان فقد المبني العتيق بالنسبة لي فقدا لمراحل من عمري الشخصي, وعند الفقد يلجأ الانسان الي الذاكرة, ومن خلال الذاكرة أحاول استعادة الجدران والأسقف والمشربيات والزمن اللا مرئي والمعني الخفي. هكذا كتب الغيطاني في كتابه المتميز والممتع الصادر عام2007 بعنوان استعادة المسافرخانه محاولة للبناء من الذاكرة. وفيه يتحدث عن درب الطبلاوي والذاكرة العميقة.. بظلالها والمعني الكامن في كل زوايا المعمار والسقف الفاصل.. الواصل ونجوي علي الجدران وديوان الحجر وأيضا يأتي بسيرة أصوات الحارة ونسمة العصاري وهديل اليمام.مكونات عالم ساحر عاشه وعايشه الغيطاني في مبني( كان) من أجمل المباني الاسلامية وصار وبقي حطاما ورمادا..رغم كل ما قيل وقتها وبعدها وعلي مدي السنوات الماضية. وقراءة هذا الكتاب من جديد(110 صفحات) رحلة فلسفية ومعمارية وصوفية يصحبك فيها الغيطاني هذا العاشق الولهان للقاهرة مكانا وزمانا وانسانا. اذ يذكرنا:لم يكن قصر المسافرخانة مرجعا للفن المعماري العربي الاسلامي في مصر فقط, انما كان ذاكرة للرؤية الفانية, لولا المعمار لاندثرت الأفكار والصياغات المؤدية الي تجسيد النظرة التي كان يتطلع من خلالها القوم الي الواقع اليومي ويقول أيضا:مهما أوغل الانسان في الزمان, أو ابتعد في المكان, فان فؤاده يعتصم الي الأبد, بتلك المواضع التي عرف فيها القلب رعيشات القلب الأولي, فاتحة الحب, وبداية مدرج العشق, والسعي الي اكتمال انسانية الانسان. وبينما أحاول أن أعيش من جديد أحلام الغيطاني وأحزانه من خلال ما كتبه أقرأ تقريرا لنيويورك تايمز من باريس يذكر فيه أن متحف المثال رودان في العاصمة الفرنسية سوف يفتح أبوابه من جديد للجمهور يوم الاحتفال بعيد ميلاد رودان 12 نوفمبر الجاري. وذلك بعد عمليات ترميم وتشييد استمرت ثلاث سنوات. وقد تكلفت هذه العمليات11 مليون دولار. والهدف من هذا الترميم الشامل حسب ما ذكر كان احياء المناخ الملهم الذي عاشه النحات العظيم في هذا المكان الفريد واستعادة الأجواء التي أبدع فيها. والمتحف مقام في قصر قديم يرجع تاريخه الي.1732 وقد انتقلت ملكيته عبر التاريخ الي جهات عدة.وقد بدأ رودان تأجير استوديو له في هذا القصر عام1908 وقد عمل فيه حتي نهاية حياته.وقبل وفاته عام1917 تفاوض مع أصحاب العقار وتوصل معهم الي اتفاق بشأن تحويله الي متحف له. هذا المكان التاريخي كان ملاذا لرودان وعشيقته النحاتة كاميل كلوديل وأيضا للرسام هنري ماتيس والراقصة ايزادورا دانكن.هذا المتحف يجذب سنويا700 ألف زائر و80 في المائة منهم من الأجانب. وزيارة هذا المتحف والتجوال بين المئات من أعمالأوجست رودان(1917_1840) متعة لا مثيل لها من حسن حظي عشتها بنفسي لساعات طوال وتكررت الزيارة والاستمتاع. وبالطبع لا يمكن أن تفوتك أبرز ما نحته رودان المفكر والقبلة وبوابات الجحيم. رودان في وصفه لطبيعة الفنان ومهمته يقولان الفنان يجب أن يخلق شرارة قبل أن يشعل نارا ثم ينبه قائلا:..وقبل أن يولد الفن يجب أن يكون الفنان مستعدا لان تهلكه تلك النار التي أشعلها بنفسهوفي تأكيده معانقة الحياة يشير الي أن الأمر الأساسي هو أن تتحرك.. أن تحب وأن تأمل وأن تهتز وأن تعيش.كن انسانا قبل أن تكون فنانا.. من يفقد حماسه وييأس بعد فشل ليس بفنان حقيقي. ورودان أيضا يقول عن نحته: أنا أختار كتلة من الرخام ثم أنحت وأقطع منها كل ما لا أحتاجه. ..................... لقد تردد علي مسامعنا من قبل كثيرا أنه لأمر مهم أن يكون لك تاريخ ولكن الأمر الأهم في الحقيقة( كان وما يزال) أن تكون لك ذاكرة. ذاكرة قادرة وأيضا راغبة في استرجاع التاريخ واستيعاب تجاربه.. ذاكرة لا تكتفي أبدا بترديد ما قيل من قبل دون تفكير ولكنها ذاكرة تسعي من خلال لملمة مكوناتها العديدة ومراجعة النفس ومحاسبة الذات للحفاظ علي كل ما هو أصيل وكل ما هو صادق في حياتنا.