حين ترتفع أصوات الترويج للعلمانية وعقيرة الدعوات الصاخبة إليها: تعلو فى الآن نفسه وبالدرجة ذاتها: وتيرة الموجات المضادة بكافة اتجاهاتها، سواء تلك التى آثرت جانب النقاش الهادئ الرصين، أم التى انتهجت جانب العنف القانى المخضب بالدماء، وبين الأفعال وردود الأفعال تتوارى فضيلة الحكمة، وصواب الرؤية، وسداد البصيرة!! وبرغم تكرار هذا الدرس زمانا ومكانا إلا أن كثيرين من الذين يروجون لا يزالون يصرون على إعادة انتاج مواقفهم بدوافع وذرائع شتى، غفلة أو تعاميا عن أن ذلك التكرار لن يزيد المستمسكين إلا استمساكا، والرافضين إلا إصرارا. فلقد قال قائل منهم كما قال أشياعهم من قبل إن العلمانية لا تعنى أكثر مما أمرنا به ديننا الاسلامى عندما قال (أنتم أعلم بأمور دنياكم)، ثم يستنتج لا فض فوه من ذلك: (أن المسلمين أحرار فى اختيار نظام حياتهم الدنيا)، وكأن هذا الحديث الشريف الذى توجه به الرسول الكريم إلى الأنصار عند قدومه إلى المدينة خاصا بأمر مهنى معين هو إصلاح عطب النخل: قد أوكل إلى الناس (جميع أمور دنياهم، جليلها ودقيقها، كبيرها وصغيرها، دون ضبط أو تقنين، يديرونها كيفما يريدون، ويرتعون فيها كيفما زينت لهم أهواؤهم ورغباتهم ومصالحهم وأغراضهم، وكأن هذه المقولة النبوية التى يتمسح بها أولئك المروجون للعلمانية (خطاب استقالة) تامة وأبدية عن دور الرسالة التشريعى بأسره، بل إن هذه العبارة بهذا الفهم المبتسر: تجسد (إفراغا) كاملا ووجوديا ومصيريا لرسالة الاسلام العظمى فى تنظيم حياة البشر، وعزلا تاما لها عن تيار الحياة المتدفق: ثوابته ومتغيراته، ماضيه وحاضره ومستقبله، بلا عدل ولا شفاعة!! وحين يمعن المرء النظر قليلا فسوف يتبين له بأدنى تأمل أن هذا القول النبوى الكريم قد صدر عنه فى مفتتح العصر المدنى، حيث التشريعات لا تزال تتوالى، والأحكام ما برحت تترى، والأوامر والنواهى ما فتئت تتنزل، أفلم يكن للصحابة الأجلاء لو أنهم فهموا من هذا القول النبوى فهما كهذا الفهم المبتسر الذى فهمه المروجون للعلمانية أن يقولوا وحاشاهم ما لنا وهذه التشريعات، والأحكام، والأوامر والنواهى، ألسنا أعلم بأمور دنيانا؟!! بل.. إنه لو كان فى هذه المقولة النبوية الكريمة ما يدعيه هؤلاء المرجفون، فما الفائدة فى أن يتنزل الوحى بعدها بكل تلك التشريعات والضوابط أصلا وابتداء، ألم تصبح مهمة الرسالة العظمى طبقا لهذا الفهم الكليل قد انتهت عند حد إبلاغ الناس أنهم قد تركوا وشأنهم، لأنهم (أعلم بأمور دنياهم)، يحرمون ما يحرمون، ويبيحون ما يبيحون، ويشرعون ما يشرعون؟! وليت هذا الفهم العليل الكليل لهذه المقولة النبوية وآثاره قد توقفت عند هذا الحد، بل إنه يتعدى ذلك إلى أمر آخر لا يقل جسامة وخطرا، ويتمثل فى أن البشرية بأسرها حين تترك فى تسيير مجريات حيواتها، وعلاقاتها المتشابكة، ومصالحها المتعارضة.. بل المتناقضة: رهنا (بمعرفتها بأمور دنياها)، فماذا يكون البديل حينئذ إلا (الانا) الفردية، أو الجمعية المستغرقة حتى أذنيها فى النفعية والتوزع والتشظى، والمغموسة يكليتها فى دوافعها العنصرية، أو العرقية، ويمسى النوع الانسانى آنئذ مرتعا خصبا لطغيان الطغاة، وكلا مباحا لبغى البغاة، ثم تشرع لذلك الطغيان والبغى: التشريعات التى تقننه، والقوانين التى تفرضه، ويصبح الضعفاء من بنى البشر أمما وشعوبا رهنا بإرادة الأقوياء، وطغيان الطغاة، وأهواء ذوى الأهواء. أمر آخر.. يحلو للمروجين للعلمانية ومثيلاتها وشبيهاتها التلويح به، والتأكيد عليه بل والزهو به وذلك حين يقدمون أنفسهم كل على طريقته على أنهم السد المنيع فى وجه دعاة الارهاب، ورافعى الرايات السوداء تحت إدعاء السلفية المغلوطة وعلى أنهم العلاج الناجع الذى يجتث جذور العنف، ويناهض (تسيس) الدين وإقحامه فى (لعبة السياسة) استجداء لعواطف الجماهير، واستدرارا لانفعالاتهم الصاخبة. وللمرء أن يتساءل كيف يمكن لهؤلاء المروجين للعلمانية ومثيلاتها أن يعالجوا هذه الأدواء والأمراض التى أفسدت التصور الاسلامى الصحيح، وهم لا يقفون على أرض ثابتة من قطعيات الدين وأصوله، يستمدون منها أبجديات هذا العلاج ومقوماته؟، بل كيف يمكن ذلك أو شىء منه لهؤلاء المروجين للعلمانية وأندادهم ونظرائهم من الحداثيين و غيرهم وهم الذين زلزلوا (ثبات الحقائق)، وأبطلوا قطعياتها، بالنسبية والتفكيك، ومثيلاتها من الحداثة وما بعد الحداثة وما إليها؟ فهل يمكن لمن (زلزل) الحقائق وهدم كياناتها أن يقاوم (فساد الحقائق) ويقوم إعوجاجها، وهل يمكن أن يتم إبطال الباطل، لمن لا يثبت عنده الحق ثبوتا يقينيا، كيف؟ وقد اهتزت لديه الموازين، وترجرجت المعايير؟، إن من يقاوم باطلا بباطل كمن يقاوم خواء بخواء، حيث لا يتمخض عن ذلك سوى المزيد من الخواء، وما درس (السوفسطائية) عنا ببعيد!! ثم أقول.. وأكرر.. ألا يدرك هؤلاء الذين يروجون للعلمانية أن ما يفعلونه يصب بشكل مباشر أو غير مباشر عالى الصوت فى مصلحة أولئك الذين نقاوم تغولهم على الاسلام، وإفسادهم لصورته الصحيحة، إرهابا وسوادا ودماء وأشلاء، وتلاعبا مقيتا بالسياسة، ويقدم لهم (منحة مجانية) لترويج مضاد سرعان ما يتحول إلى فتنة صماء عمياء، وما بين الترويج، والترويج المضاد: تزداد نار التطرف لهيبا، ويكون الخاسر الأكبر فى هذه الفتنة الخاسرة هو الصورة الحقيقية للاسلام نفسه، فى اعتداله ووسطيته، وشريعته ورحمته.. فيا ليت قومى يعلمون. لمزيد من مقالات د.محمد عبدالفضيل القوصى