هل هذه القري التي أري قراي ؟ ............. هل هذه قصورها ودورها, توهجت في مهجتي سطورها, والتمعت بسحرها عيناي ؟ هل هذه قراي ؟ ............. أبحث عن بيوت أجدادي بها, أبحث عن وجوه أندادي, وملعبي, ومنتداي. فلا أري سواي. ............. أبحث عن وشم علي جذوع نخلها, تفننت في نحت نمنماته يداي. فلا أري النخلة في محلها, ولا أري الصبية حول ظلها, ولا أري الذين عاصروا هواي. ............. أبحث في انحناءة الطريق عن طفولتي, وعن صباي. وعن خطي حبيبتي الأولي علي ترابها, ولا أري سوي خطاي. أبحث عن سوارها النيلون, عن وشاحها الشيفون, عن جلستنا بمدخل الرحاب, عن خطرتنا علي ليونة التراب, عن سهام عينها التي تلألأت. ثم استقرت في حشاي. فلا أري السهم الذي أصابني, ولا أري سوي دماي. ............. أبحث عن' جميزتي' الكبري التي, ظللت السوق القديم. فلا أراها, لا أري ضاربة الرمل, ولا قارئة الأديم. ولا رغاء ناقة ترتاح في ظلالها, تلوك في اجترارها حكاية المقلع والمقيم. ولا أري سواي. ............. أبحث عن رائحة الأعشاب, وابتهاجة الأرض بموسم الحصاد. أبحث عن تغريدة, حط بها وطار في أجوائه محلقا أبوفصاد. فلا أري سوي الحديد شاخصا, ولا أري سوي الجراد. ............. ليس سوي الأمتار والمربعات في ارتفاعها المقيت ليس سوي عقارب الزمان تنثني, في زحفها المميت. وتلدغ المكان. حوائط الأسمنت والآجر تشرئب في سماي. فتلتوي عنها خطاي. ............. أبحث عن بئر الفناء, عن صوتي يرن في جدرانها, معبرا عن بهجتي, ومبتغاي. وعن نداء جدتي تدعونني لأدع الفناء. وألحق الأسرة في التفافها علي الغداء. فلا أجيبها, منشغلا بروعة الهتاف في فوهة البئر, وروعة الرنين في صداي. ............. أبحث عن مؤذن الفجر, وصوته الندي في الآفاق. أبحث عن منشدة' العديد' في جنائز الموتي, وعن إيقاعها الشجي في الرواق. أسير في الطريق لا أري الطريق. ليس سوي مكبرات الصوت والصياح والزعيق. ............. أبحث عن صوت اليمام عالقا, علي مداخل الدروب. أبحث عن سرب الحمام عائدا مع الغروب. أبحث عن موال عاشق ورجع ناي. تحمله الرياح من عاقولة الأرض, إلي بوابة السراي. فلا أري دندنة الناي, ولا واجهة السراي. ............. أبحث في قراي عن قراي. أبحث عن أيامها الذواهب. عن ليلها اللامع بالنجوم والكواكب. عن قمري الذي تركته علي سمائها, وقدري الذي نقشته علي ترابها, وبغيتي التي ترعرعت وأملي ومرتجاي. ............. أبحث عن مجالس العلم التي كانت تدار. وعن أرائك الشيوخ, عن وجاهة الضيوف والكبار. لعلها تؤنسني من جهة القوم رجاحة العقول, وانسيابة الحوار. لعلها تؤنسني لطائف الحكمة, أو طرائف الأخبار. فلا أري أثارة من الحديث, أو أري قصاصة من الحوار. ليس سوي تهافت اللغو مسيطرا, ليس سوي الجدال والخلاف دائرا, ونزق الصغار. ............. تداخلت مساقط الأضواء والظلال. واشتبهت تحركات الشمس في الزوال. ليس علي حالته من جلوة الأمس, سوي مقابر الآل, ورهبة السكون حولها, وروعة الجلال. يا أيها الأسلاف حنت الضلوع للضلوع, أنت النياق بالرحال. قد كان مبتداي هاهنا, فهل هنا يكون منتهاي ؟ ............. تداخل المهد مع اللحد, كما تشاكلت في رؤيتي رؤاي. لست أراك جيدا, أما ترينني يا قريتي أأنت قد تبدلت عيناك, أم تبدلت عيناي ؟