كان ينبغى للفشل المدوى لحزب النور ومؤيديه بنتيجة لم ينجح أحد، فى الجولة الأولى للمرحلة الأولى من الانتخابات البرلمانية، أن يُوقِف هذا الجدل العقيم بين الكثير من رموز التيارات المُطالِبة بالحكم المدنى حول أسباب عزوف قطاعات جماهيرية كبيرة من المشارَكة فى التصويت. خاصة أن فشل حزب النور حقيقة واضحة دامغة مفاجئة غير متوقعة بهذا الشكل وهذا الحجم، كما أنه من المفتَرَض أنها تصبّ فى صالح أصحاب الدعوات المدنية. أما الجدل المحتدِم بينهم فهو قائم فى الأساس على مجرد وجهات نظر وتحليلات لا يدعمها أى بحث علمى أو استطلاع موسع. وكان غريباً أن كل فريق منهم يقطع بأن ما يراه هو عين الصواب حتى قبل أن يكتمل مشهد الانتخابات، بل منذ الساعات الأولى من عمليات التصويت، بل إن أحكام كل فريق هى على الأغلب من باب التأكيد على صحة موقفه المبدئى من الرئيس السيسى، حيث رأى معارضوه أن قلة الإقبال رسالة مهمة إليه من الممتنعين عن تحفظاتهم على سياساته، أما المؤيدون فقطعوا بأن الامتناع بسبب أن الناس تضع كل ثقتها فى السيسى، ويرون أن البرلمان قد يعيق مسيرة الإنجازات بالمزايدات التى يمارسها البرلمانيون ضد الحكومة..إلخ. وفى كل الأحوال لم يطرح أحد إجابة مقنعة على السؤال الذى يفرض نفسه: كيف أن كل هؤلاء المرشحين، الأفراد المستقلين والحزبيين والقوائم بكل التنويعات التى تضمها، لم يتمكنوا من جذب جماهير عريضة متحمسة لفوزهم؟ وكما ترى، فإنه لا يمكن لهذا النوع من الجدل أن يصل إلى نقطة التقاء بين الطرفين، بل من المستحيل أن يؤدى إلى أى نتيجة عامة سوى استنزاف طاقة الجميع وتبديد الوقت الثمين، وتفويت فرصة الاستفادة من الموقف الشعبى الذى لم يدع مناسبة إلا وأفصح فيها عن رفضه المبدئى للاتجاهات التى تخلط الدين بالعمل السياسى. وعلى سبيل التذكرة، فإن الشعب أسقط مرشح الإخوان فى الجولة الأولى للانتخابات الرئاسية فى 2012، التى لم يتحصل فيها سوى على أقل من ربع الأصوات، أما من دفع به دفعاً إلى القصر الرئاسى فى الجولة الثانية فهو دعم القيادات السياسية التى من المفتَرَض أنها ضد الحكم الدينى، والذين تفرغوا تماماً لإقناع الجماهير بجدوى اختيارهم، لأنهم رأوا يومها أنه أقرب إليهم من الفريق شفيق! ولم ينقذ البلاد من حكم الإخوان الكارثى إلا الخروج الشعبى التاريخى فى 30 يونيو الذى طالب القوات المسلحة بالتدخل لتنفيذ الإرادة الشعبية الرافضة لكل الجرائم الإخوانية، وتصحيحاً للخطأ التاريخى من النخب السياسية المدنية! وكان غريباً أن يفلح حزب النور فى التسرب إلى قلب مشهد الفرح بعزل الإخوان، بزعم معارضته للإخوان، فى وقت سمح فيه لكوادره بالمشارَكة فى اعتصام رابعة يطالبون بعودة مرسى إلى الكرسى! وكان الأغرب الخضوع لابتزاز حزب النور والإبقاء على دستور الإخوان الذى كانت الجماهير ترفع الهتاف فى الميادين بوجوب إسقاطه، بل السماح للحزب بالمشاركة فى أعمال لجنة الخمسين لتعديل الدستور، بما أتاح له فرصة نادرة لمزيد من الابتزاز، حتى لم يعد من الممكن إلا أن يخرج الدستور بعد التعديل مزروعا بألغام منها ما يخرق قاعدة المساواة بين عموم المواطنين فى بعض حقوق الإنسان غير القابلة للتصرف، مثل حق ممارسة الشعائر، مع منح الأزهر صلاحيات تجيز له إن أراد أن يتدخل فى كل جوانب الحياة. وكانت هذه أيضاً ضد شعارات الميدان! هذه المرة، ومع الجولة الأولى من المرحلة الأولى لانتخابات مجلس النواب، جاءت النتيجة بعزل حزب النور، لكى تؤكد الجماعة الناخبة مجدداً موقفها القديم الواضح الرافض لهذه الفئة من السياسيين الذين يُصرون على خلط الدين بالسياسة، وهو الخطأ الذى تجاوزت عنه الدولة بعد الإطاحة بحكم الإخوان وتركت حزب النور يمارس أعماله ضد الدستور الذى شارك فيه ممثلو الحزب والذى لا يجيز هذا الخلط! بل والسماح لرموز التيار السلفى بارتقاء المنابر التى يستخدمونها لإزكاء نيران الطائفية واعتماد خطاب الكراهية وازدراء المسيحية والتطاول على المسيحيين، بل وعلى المذاهب الإسلامية الأخرى التى يُصرُّون على تكفير أصحابها! وها هى نتيجة الانتخابات الأخيرة تؤكد أنه لا يمكن لحزب النور أن يُعوِّض فى الجولات الانتخابية القادمة ما فقده مؤخراً، وهى من نتائج الموقف الشعبى، بما يُرتِّب على مجلس النواب الجديد مسئوليات على أعلى درجة من الأهمية، تبدأ بمساءلة الحكومة إن هى تجاوزت عن أخطاء هذا الحزب، التى تبدأ من انتهاك النص الدستورى الصريح، وبإجبار الحكومة على فرض القانون على الحزب لتوفيق أوضاعه وفق القواعد واجبة الاتباع، مع الحسم فى تطبيق القانون إزاء الأقوال والأفعال المفجرة للشقاق والفتنة فى الجبهة الداخلية. وأما العمل الأساسى المنتظر من مجلس النواب، فهو الإسراع فى تحقيق المطلب الشعبى الذى يُلحّ على ضرورة تحقيق الحكم المدنى، وحماية المواطنين من انتشار الشعوذة، ومن التغاضى عن الجهر بها فى الميكرفونات، بما يعنى وجوب إحداث إصلاح جذرى لمنظومة التشريعات القديمة التى سمحت بإمكانية تشكيل الإخوان وحزب النور والتكوينات الشبيهة، مع إصدار التشريعات المهمة الخاصة بحماية الحريات التى جارت عليها هذه التكوينات عبر عقود اخترقت فيها الحق فى الاعتقاد والحريات الشخصية والعامة، وخصوصية الناس، وحرية التعبير والبحث العلمى..إلخ، مع ضرورة أن يولى البرلمان الجديد أهمية قصوى لكيفية ردع من يستخدمون سلاح التكفير. لا تهاون هذه المرة مع إهمال قراءة اختيارات الشعب باهتمام واحترام، ومع تجاهل تطبيقها بدقة، سواء من البرلمان أو الحكومة بأجهزتها المختلفة. يبقى أن القانون لا يعتدّ بالطعن بضآلة هذه النسبة من الناخبين، وإنما يعتمد الأصوات الصحيحة التى تحدِّد الفائزين أفراداً وقوائم. لذلك ينبغى الالتفات إلى النبرة التى تطعن بهذه الحجة فى صحة البرلمان الجديد قبل انعقاده، بل قبل أن تُستكمل الانتخابات، وقبل أن تتضح الأرقام النهائية بعد آخر جولة، وهى النبرة التى انطلقت من صحف وقنوات ومواقع إخوانية، ثم إذا بها، للغرابة، تجرى على ألسنة وأقلام بعض المنادين بالدولة الحديثة، دعاة الحكم المدنى، الرافضين للحكم الدينى! لمزيد من مقالات أحمد عبد التواب