ربما لم تكن مفاجأة فوز الحزب الليبرالي الكندي في الانتخابات الفيدرالية الأخيرة ، فأغلب استطلاعات الرأي كانت قد أكدت ذلك قبل شهور واسابيع من الانتخابات التي اعلنت نتائجها في العشرين من اكتوبر الجاري . لكن المفاجأة كانت في الاغلبية الكاسحة التي حصل بموجبها الحزب الليبرالي على عدد 184 مقعدا من اجمالي عدد مقاعد 338 هي مجموع مقاعد البرلمان الفيدرالي الكندي بينما حصل حزب المحافظين، الذي سيطر على اغلبية البرلمان الكندي في اخر عشر سنوات، على 100 مقعد فقط اما الحزب الديمقراطي الجديد فقد حصل هذه المرة على 43 مقعدا بينما توزعت باقي المقاعد على باقي الاحزاب السياسية الصغيرة في كندا. حمل خطاب رئيس الحزب الليبرالي الفائز ورئيس الوزراء الكندي الجديد جوستان ترودو املا جديدا للكندين الذين سعوا للتغيير عبر انتخاباتهم الفيدرالية الاكثر سخونة ربما في الاعوام الاخيرة، حيث ركز خطابه على ضرورة التأكيد على وحدة جميع الكنديين مهما اختلفت الاعراق والاصول والقناعات الإيمانية والدينية. مؤكدا ان كندا بناها كنديون تنتمي أصولهم لكل بلاد الدنيا ويؤمنون بديانات مختلفة بل ويتحدثون بلغات مختلفة اتت من جميع بلدان العالم ، وهذا مايشكل خصوصية كندا.. اختيار جوستان ترودو وحزبه الليبرالي خلال هذه الدورة من الانتخابات الفيدرالية الكندية يعكس رغبة جامحة لدى الكنديين في التغيير ، خاصة وان مقاطعات الغرب التى كانت تعد حكرا على حزب المحافظين اعلنت مبكرا اختيارها عكس المتوقع ورفضها لاعادة انتخاب المحافظين من جديد. وجاءت نتيجة الفرز في مقاطعة اونتاريو ومن بعدها كيبك اكبر مقاطعات كندا لتحسم المعركة بأغلبية ساحقة للحزب الليبرالي ، مما يعني تغييرا جذريا في سياسات كندا الداخلية والخارجية ايضا. اسباب عدة احدثت هذه النتائج في الانتخابات الفيدرالية الكندية ربما من ابرزها ما عكسه التصويت الاستراتيجي الذي اتبعه الناخب الكندي بهدف التغيير ، فقد كان الهم الاول للناخب الكندي هو اسقاط حكومة المحافظين ، لذلك اختار التصويت لصالح المرشحين اصحاب الفرصة الحقيقية الاكبر في الانتخابات بصرف النظر عن كون المنافس امامه سياسي جيد اما لا. وهو ما جعل عددا من السياسيين الكنديين المنتمين لاحزاب غير الحزب الليبرالي يفقد مقاعده داخل البرلمان رغم ما يشهد لهم من كفاءة. ربما كانت سياسات رئيس الوزراء السابق ستيفن هاربر وهو المنتمي لحزب المحافظين الاقتصادية هي الدافع الاول لرفض الكنديين لحكومته ، فالاوضاع الاقتصادية تنذر بأزمة عنيفة تسبب فيها هاربر وحكومته. كذلك فإن عدم رضاء الكنديين عن السياسات الاجتماعية التي انتهجتها حكومة المحافظين السابقة، كان واحدا من اسباب رغبتهم في اسقاط المحافظين في الانتخابات الفيدرالية فقد ذهب عدد كبير من المحللين الى ان سياسات هاربر وما سنته حكومته من قوانين يذهب بالمجتمع الكندي نحو الانقسام، فهي المرة الاولى في تاريخ كندا التي يتم فيها التفريق بين المواطنين على اساس جذورهم وفق قانون الارهاب الذي يتيح للحكومة سحب الجنسية من مزدوجيها في حالة تورطهم بجرائم ارهاب. هذا بالاضافة لتبني هاربر خطابا معاديا للمهاجرين من اصول عربية إسلامية. وكان اخر ما أكد سياسات هاربر المتشددة مع المهاجرين هو موقف حكومته المتعسف من قضية اللاجئين السوريين . من ناحية اخرى فإن حكومة المحافظين لم تبد اي اهتمام بقضايا البيئة في كندا وهو الامر الذي ينظر اليه المواطن الكندي باعتباره احد اولوياته فقضايا التلوث والاحتباس الحراري امورا تبدو في منتهى الاهمية للكنديين حيث تؤثر بشكل مباشر على حياتهم اليومية وعلى محاصيلهم الزراعية ، بل ان حكومة هاربر لجأت للتعتيم حول مثل هذه القضايا باجراء هو الاول من نوعه حينما منعت هيئة البيئة من نشر تقاريرها إعلاميا. ورفض الكنديين الواضح لسياسات هاربر تجلى في سقوط ثلاثة وزراء من المحافظين في دوائرهم الانتخابية التي سيطروا عليها اكثر من عشر سنوات من قبل اولهم وزير المالية والثاني وزير الهجرة والثالث وزير البيئة. ملمح آخر يبدو في منتهى الاهمية للمعركة الانتخابية في كندا هو رفض الكنديين الاستسلام لحملة حزب المحافظين الدعائية التي اعتمدت على اعلاء المخاوف الامنية لدي الشعب الكندي من الارهاب، ومحاولة ايقاظ ما يسمى بالاسلاموفوبيا او الخوف من الاسلام. وهو ما ظهر في فوز عشرة مرشحين مسلمين بمقاعد في برلمان 2015 الكندي. ويعد هذا الرقم هو الاكبر في تاريخ كندا حيث هي المرة الاولى التي يحصل فيها المسلمون على هذا العدد من مقاعد البرلمان. منعطف خطير تقف فيه كندا حاليا فبين مواجهة مايسمى بالارهاب العالمي وتزايد اعداد الكنديين المنضمين للحرب في صفوف تنظيمات ارهابية مثل داعش ومأزق اقتصادي كبير في الطريق و خطابات لسياسين سابقين عززت دعاوى الانقسام الداخلي وكادت تفقد كندا خصوصيتها وإجراءات حكومية قللت من كفاءة الخدمات التي تقدمها الدولة للمواطن يواجه الحزب الليبرالي اختبارا حقيقيا لقدراته في ادارة زمام الامور والعودة بكندا من جديد الى هدوئها واستقرارها الذي ارتبك في الاعوام الاخيرة . فهل يفلح الليبراليون في ذلك؟ .. الايام القادمة وحدها تجيب.
ترودو فى سطور
► جوستان ترودو الشاب ذو ال 43 عاما الذي اصبح رئيس وزراء وصاحب الفضل في الخروج بالحزب الليبرالي من ازمة اصابته قبل اكثر من عشرة اعوام تحت قيادة رئيس وزراء كندا السابق الليبرالي جان كريتيان.وهي الازمة التي اطاحت بالحزب الليبرالي طوال عشر سنوات وهددت مصداقيته لدى الشعب الكندي، وهو ما استطاع ترودو التغلب عليه والعودة بحزبه من جديد للمنافسة على تأييد الشعب الكندي والحصول على اصواته في الانتخابات. جوستان ترودو هو الابن الاول لزعيم الحزب الليبرالي ورئيس وزراء كندا السابق بيير البرت ترودو وهو معشوق الكنديين ويعد احد اساطير السياسة الكندية لما استطاع القيام به من توحيد صفوف الكنديين والتصدي لدعاوى الانفصال التي قام بها مؤيدو الإنفصال في مقاطعة كيبك ، وهو صاحب قرار اعتماد اللغتين الانجليزية والفرنسية كلغتين رسميتين في كندا ووضع ميثاق الحقوق والحريات في الدستور الكندي وكان لافكاره الاشتراكية عظيم الاثر على سياسات كندا في مجالي الصحة والتعليم الذين تباهي بهما كندا العالم حاليا. دخل جوستان ترودو مجال العمل العام بعد حادثة وفاة شقيقه اثر انهيار جليدي وهو مادفعه للعمل على تعزيز الاجراءات الامنية للحد من اعداد ضحايا الانهيارات الجليدية، درس ترودو الادب الانجليزي وجغرافيا البيئة والهندسة في جامعتي ماكجيل وبريتش كولومبيا وعمل مدرسا وكذلك بإحدى المحطات الاذاعية وتزوج من عارضة الازياء السابقة والمذيعة حاليا صوفي ماجاريجوار وله ثلاثة ابناء. ويعتبر خطاب التأبين الذي القاه يوم جنازة والده هو اللحظة التي قرر فيها اقتحام مجال السياسة حيث ترشح لمنصب نائب بالبرلمان الكندي عام 2008 وحصل على اغلبية ساحقة في دائرته الانتخابية واعتذر اكثر من مرة عن الترشح لرئاسة الحزب الليبرالي حتى العام 2011 حيث اعلن نيته في الترشح لمنصب رئيس الحزب واستطاع انتزاعه بأغلبية وصلت ل 80% من اصوات اعضاء الحزب. ومنذ وقتها يقود ترودو حزبه من نجاح لنجاح ،واليوم هو في اختبار حقيقي لقدراته كسياسي اختير ليقود كندا بأكملها.