فى القرن التاسع عشر صك وزير الخارجية البريطانى اللورد هنرى بالمرستون, جملته الشهيرة التى اصبحت بعد ذلك بمنزلة جوهر السياسة الغربية وتحديدا السياسة الامريكية, " لا اصدقاء دائمين فى السياسة وانما هناك فقط مصالح دائمة", اليوم يمكننا ان نلحظ بوضوح كيف غيرت الولاياتالمتحدة من قواعد لعبتها فى سوريا, عندما اصبحت بشكل غير مباشر تدعى ان جبهة النصرة, هى ضمن ما تصفه عادة منذ اشهر بالمعارضة السورية المعتدلة. فى منتصف 2011 سٌربت من مبنى القنصلية الامريكية بمدينة بنغازى الليبية, وثائق سرية من ارشيف وزارة الخارجية الامريكية والبنتاجون تدل على تورط واشنطن فى دعم جبهة النصرة التى كانت قد عمدت الى انشائها بعد المجازر الوحشية التى ارتكبها ما اسسته سابقا واطلقت عليه اسم "الجيش الحر" فى سوريا. استمرت محاولات الادارة الامريكية وباشراف وزارة الدفاع الامريكية فى التدخل فى الشأن السورى من خلال اطلاق مجموعات من المقاتلين الذين عمدت الى تدريبهم واطلقت عليهم دوما "المعارضة المعتدلة", وهى مجموعات من الكتائب المختلفة التى انضمت فى نهاية المطاف الى الجيش الحر, وكانت تلك الكتائب المدربة امريكيا, قد واجه افرادها القتل على يد جبهة النصرة التى كانت تختطف العديد من مقاتليها. فى تقرير لافت للنظر للرئيس التنفيذى لمؤسسة الاستشارات الدولية فالنس وزميل مؤسسة الدفاع عن الحريات, دافييد جارتنشتين, نقرأ ان جبهة النصرة التابعة لتنظيم القاعدة, تلقى حاليا دعما ماليا ولوجستيا وعلى نحو علنى من الولاياتالمتحدة وحلفائها الرئيسيين فى منطقة الشرق الاوسط وعلى رأسهم قطر واسرائيل, وهو واقع لم تكن الولاياتالمتحدة لتسمح به قبل اربع سنوات مع بدايات اندلاع الكارثة السورية, حيث سرعان ما عمدت الولاياتالمتحدة الى اعلان الجبهة منظمة ارهابية. اليوم مع الارتباك الهائل الذى تواجهه الولاياتالمتحدة امام تنظيم داعش ووحشيته الاستثنائية, يبدو انه لم يعد امامها سوى التحالف مع اى جبهة حتى ولو كان تنظيم القاعدة نفسه والجبهات التابعة له فى المنطقة, ويبدو السؤال البديهى هنا, هل تناست الولاياتالمتحدة ثأرها من التنظيم الاشرس الذى صفعها تلك الصفعة المدوية فى 11 سبتمبر؟ ام ان مصالحها اليوم اصبحت ان تتحالف مع عدوها القديم, هذا بالطبع مع افتراض انه كان فى الاساس عدوا حقيقيا. الواقع ان عددا من المحللين والمراقبين يلاحظ بوضوح التغيرات الجذرية التى طرأت على القاعدة والجبهة التابعة لها "النصرة" والتى مكنت تلك الجبهة أخيرا وامام تزايد وحشية تنظيم داعش من كسب موطيء قدم على ارض الواقع البائس فى كل من سورياوالعراق. ويفند جارتنشتين فى تقريره الذى نشرته دورية فورين افيرز, الاسباب التى مكنت النصرة من كسب ود الحكومات الاقليمية التى اصبحت تساندها حاليا وبموافقة شبه علنية من واشنطن, فيكتب ان منافسة الدول السنية مع ايران اصبحت مبررا واضحا لمساندة هذا التنظيم, فقط لاضعاف الاسد المدعوم بدوره من ايران, والتغاضى عن الفظائع التى ارتكبها ومنهجه التكفيرى الارهابي, هذا بالاضافة الى التغير الجذرى الذى اصبحت النصرة تتبناه أخيرا فى خطابها الدعائى للغرب والذى يبدو شديد المهارة, فهى تعلن انها معنية بحماية الاقليات الدينية فى سوريا, وذلك على خلاف وحشية داعش وقتلها الجماعى لتلك الاقليات, لكن الجبهة فى المقابل لا تنفى انها تعمل على ما تسميه اعادة التأهيل الدينية والتحويل القسرى لتلك الاقليات الدينية, وهو ما تعده الولاياتالمتحدة وحلفاؤها فى المنطقة أمرا لا بأس به على الاطلاق. يذكر انه فى يوليو 2014 كان امير القاعدة ايمن الظواهري, قد اصدر تعليماته الى ابو محمد جولانى امير جبهة النصرة, بتحسين علاقة تنظيمه مع السوريين وفصائل المعارضة المختلفة على ارض الواقع, وفى مارس 2015 شكلت النصرة وعدة مجموعات معارضة سورية منها متشددة سلفية مثل منظمة احرار الشام وشكلت ائتلاف جيش الفتح, وعندما استولى جيش الفتح على مدينة ادلب اعلن امير النصرة ان جبهته لن تسعى الى احتكار حكم المدينة بل سيتم تقاسم السلطة مع بقية الاطراف, مما مكن الجبهة من اكتساب قدر كبير من الشعبية, والالتزام بالحفاظ على ارواح المدنيين. من العناصر الواضحة ايضا فى تمكين النصرة, ما تبثه قناة الجزيرة القطرية من مواد موجهة لدعمها, ففى مارس 2015 بثت القناة مقابلة مع ابو سليمان المهاجر, وهو من ابرز زعماء الجبهة ومن اصل استرالي, قارن المهاجر ما بين داعش والنصرة, وقال ان هدف النصرة هو الاطاحة بالاسد و"استعادة حق الشعب السورى المسلم فى اختيار قادتهم بشكل مستقل" وفى المقابلة التى اجرتها وبثتها الجزيرة باللغة الانجليزية مع جولاني, زعم الامير ان النصرة مستعدة لحماية الاقليات الدينية ووعد بان مقاتليه لن يستهدفوا الدروز او العلويين, حذف من النص الانجليزى ما ذكره الجولاني, من ان على العلويين التخلى عن انتمائهم الطائفى الذى يتناقض مع تعاليم الدين الاسلامي, هذا الدعم القطرى من خلال قناتها الموجهة الجزيرة, يصفه اميل حكيم زعيم المعهد الدولى للدراسات الاستراتيجية, بان يرجع له الفضل الاكبر فى تحسين صورة الجبهة التابعة لتنظيم القاعدة, وانها اكثر اعتدالا من داعش, وشريك يمكن التعامل الغربى معه. الوضع الان كما يراه جارتنشتين, ان النصرة اصبحت تلعب على هويتين, واحدة باعتبارها جماعة معارضة للاسد فى سوريا, والاخرى انها جماعة تابعة لتنظيم القاعدة الذى خسر فى العراق من قبل وتم استبداله بتنظيم داعش. ويبدو جليا ان قيادات القاعدة اصبحت اكثر وعيا تجاه تحسين سمعتها دوليا, وانها قد استغلت جنون داعش لتبدو امام الغرب الاكثر براءة والاكثر قابلية للتفاوض مع الاخر, مما يدفع واشنطن وحلفاؤها الى تغير قواعد اللعبة السياسية لتصبح "فى السياسة يمكن ان يتحول عدو الامس الى حليف حميم".