هجرة الحبيب (صلى الله عليه وسلم) مليئة بالدروس والعبر , وأول هذه الدروس هو أن من كان مع الله (عز وجل) كان الله معه , ومن كان الله (عز وجل) معه فلا يحزن , ولا يجزع , ولا يضيق , ولا ييأس , ولله در قائل: إذا صحَّ عونَ الخالقِ المرْءَ لم يجدْ عسيرًا من الآمالِ إلَّا مُيسَّرَا ودر رابعة العدوية حيث تقول : إِذَا صَحَّ مِنْكَ الوُدُّ فَالكُلُّ هَيِّنٌ وَكُلُّ الَّذِى فَوْقَ التُّرَابِ تُرَابُ وقد تجلى أثر هذه المعية والتأييد الإلهى لحبيبنا (صلى الله عليه وسلم) فى كل مراحل الهجرة , من لحظة انطلاقه (صلى الله عليه وسلم) من داره بمكةالمكرمة إلى المدينةالمنورة, وتجلت هذه المعية فى أعلى صورها فيما يصوره القرآن الكريم فى قول الحق سبحانه تعالى : «إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» (التوبة : 40), وذلك حينما تبع المشركون النبى (صلى الله عليه وسلم) وصاحبه حتى وقفوا على مشارف الغار الذى كان فيه النبى (صلى الله عليه وسلم) وصاحبه , فقال الصديق (رضى الله عنه) لحبيبنا (صلى الله عليه وسلم) : فداك أبى وأمى يا رسول الله , لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا , فقال له النبى (صلى الله عليه وسلم) : «يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟ يا أبا بكر لا تحزن إن الله معنا», فقال أحد المشركين إن هذا العنكبوت لينسج خيوطه على هذا الغار من قبل ميلاد محمد، ثم انصرفوا, حيث أعمى الله سبحانه وتعالى أبصارهم عنه "فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ" (يس: 9)، وحفظ الله (عز وجل) نبينا (صلى الله عليه وسلم) وصاحبه من كل سوء ومكروه . وهذه المعية ممتدة لأمة محمد (صلى الله عليه وسلم) بشروطها, ما داموا على العهد مع الله (عز وجل), محافظين على دينهم، متمسكين بكتاب ربهم (عز وجل) وسنة نبيهم (صلى الله عليه وسلم), محققين الجندية الحقيقية لله (عز وجل), حيث يقول سبحانه وتعالى: «وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ» (الصافات : 171-173) . أما الدرس الثانى: فهو أنه لا هجرة الآن إلى أى بلد بزعم إقامة دولة الإسلام فيه كما تزعم تلك الجماعات والتنظيمات الإرهابية الضالة، التى تحشد الشباب وتجنده وتغرر به بزعم إقامة دولة الإسلام, وهدفهم تخريب ديار الإسلام خيانة لدينهم وأوطانهم وعمالة لأعداء أمتهم . فقد انقطعت الهجرة بمعنى الانتقال من وطن إلى وطن لإقامة دولة الإسلام فيه بفتح مكة, حيث يقول نبينا (صلى الله عليه وسلم): «لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْح وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ» (متفق عليه), أى لا هجرة بعد فتح مكة , ولما جاء صفوان بن أمية مهاجرًا بعد الفتح, قال له النبى (صلى الله عليه وسلم): «مَا جَاءَ بِكَ يَا أَبَا وَهْبٍ ؟ قَالَ : قِيلَ إِنَّهُ لا دِينَ لِمَنْ لَمْ يُهَاجِرْ، فقال له النبى ( صلى الله عليه وسلم ) : ارْجِعْ أَبَا وَهْبٍ إِلَى أَبَاطِحِ مَكَّةَ ، فَقَرُّوا عَلَى مِلَّتِكُمْ ، فَقَدِ انْقَطَعَتِ الْهِجْرَةُ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ وَإِنِ اسْتُنْفِرْتُمْ ، فَانْفِرُوا» (البخاري) . ويلحق بهذا تلك الجماعات المبتدعة التى تدعو إلى ما تسميه الخروج فى سبيل الله ثلاثة أيام أو سبعة أيام أو أربعين يومًا أو سبعين يومًا ، وكل هذا ابتداع لا أساس له فى الدين . وأما الدرس الثالث : فهو وثيقة المدينة التى أقرت الحقوق والواجبات لجميع أبناء المجتمع، وأصلت لترسيخ التعايش السلمى بين أبناء الوطن من جهة، وبنى الإنسان جميعا من جهة أخرى، بما يجعلها أعظم وثيقة إنسانية فى فقه التعايش على مر التاريخ . وأما الدرس الرابع: فهو عن الهجرة التى نحتاجها فى زماننا هذا, وهى الهجرة من البطالة والكسل إلى العمل والإنتاج, والهجرة من الكذب والغدر والخيانة والشقاق والنفاق إلى مكارم الأخلاق, والهجرة من التدين الشكلى إلى التدين الحقيقى, ومن المتاجرة بدين الله (عز وجل), إلى خدمة هذا الدين لا استخدامه, ما أحوجنا أن نعمل على أن تقف مصر الغالية على قدمين وساقين صحيحين سالمين، وأن تقف أمتنا العربية على قدمين وساقين صحيحين, وأن نقف صفًا واحدًا مع قواتنا المسلحة الباسلة خلف قيادتنا السياسية الحكيمة , لنبنى دولتنا الحديثة على الحق والعدل, ونحقق لها الرقى والتقدم والرخاء, بما يسر الصديق , ويغيط العدا , ويرد كيد المعتدين فى نحورهم . لمزيد من مقالات د . محمد مختار جمعة