يحتاج الخطاب الإسلامي المنشود إلى إعادة الاعتبار لقدرات الأمة وكفاءاتها عبر آلية جديدة للاجتهاد الجماعي، ورؤية مختلفة لتجديد الخطاب تتجه إلى الجانب البنائي وليس الدفاعي، وتستوعب مقتضيات الزمان وخصوصيات المكان وتكون على وعي بذبذبات النسيج الشبكي للواقع الاجتماعي الراهن عبر مستوياته الوطنية والإقليمية والعالمية. علينا أن نحدد أجندة تجديد خطابنا الديني، وكيفية هذا التجديد، حتى لا نقع في خطأ تنفيذ أجندات الآخرين، فنحن أدرى بمكة وشعابها وهذا لا ينتقص من دراية الآخرين بشعاب لندن وباريس وواشنطن، ولكن خرائطهم حتى وإن تمت بتقنية «جي بي اس» لن توصلنا إلى شعابنا. وبناء على ذلك نقترح ان تتصدر الخطاب الإسلامي الجديد ثلاث أوايات،هي: أولا :نبذ العنف وتأكيد قيمة الحوار وترسيخ أدب الاختلاف في الرأي، بحيث يتم تأكيد التمسك بالطرق السلمية في التغير،والتحول من فكرة تفجير الجسد الي تفجير طاقات العقل، واعتماد الحوار باعتباره منهج حياة. ومن هنا يجب التأسيس لخطاب إسلامي يؤصل فكرة السلمية والإيمان بالتداول السلمي للسطلة ونبذ العنف، بخاصة وأن ابرز مظاهر العنف اصبحت مقترنة بالمجتمعات الإسلامية منذ عدة عقود، فكأن الأمة نسيت أن دينها مشتق من السلام، الذي هو أحد أسماء الله الحسنىوأن تحية دينها هي السلام وأن ربها يأمرها بأن تدخل في السلم كافة و أن «الشريعة مصلحة كلها، وحكمة كلها، وعدل كلها، ورحمة كلها».فضلا عن أن تعزيز السلم في المجتمعات الإسلامية أولوية قصوى لأن السلم من أعلى مقاصد الشريعة الإسلامية لكونه ضامنا لحفظ كل المقاصد الضرورية. ومن ثم فإن الإذعان لأولوية السلم على غيره من المصالح فريضة شرعية قبل أن تكون اعتبارا بالتجارب الإنسانية. ثاني هذه الأولويات ترسيخ قيمة المواطنة والوحدة الوطنية وحب الوطن والدفاع عنه وتأكيد العزة الوطنية واحترام كرامة المواطنين والمساوة بينهم بغض النظر عن الدين أو العرق، وتأكيد أن أبناء الوطن الواحد هم «مواطنون لا ذميون» وتأكيد الحماية التامة والاحترام الكامل لدور العبادة لأتباع الديانات السماوية، وضمان الممارسة الحرة لجميع الشعائر الدينية دون أية مُعوِّقات، واحترام جميع مظاهر العبادة والتوعية بخطورة الفتن الطائفية والمذهبية والتحذير منها. وهذه الألوية في الخطاب الإسلامي المنشود تستهدف تأصيل الفكرة الوطنية. ثالثا:أن الخطاب الإسلامي الجديد مطالب بأن يقدم أطروحات أساسية متفق عليها في الجانب السياسي تعوض النقص والاختلال الذي شهده الفكر والفقه الإسلامي خلال عهود التراجع الحضاري والذي أسفر عن تضخم في مجال العبادات وفقر في المجال الدستوري والسياسي، نتج عنه خطاب جزئي ركز على الشكليات، وأغفل العديد من القضايا الجوهرية في حياة الناس بخاصة كرامة الإنسان وحقوقه وحريته. في هذا الصدد نقترح ان يتبنى الخطاب الإسلامي الجديد عددا من الأطروحات تنطلق من القيم والمبادئ التي تضمنتها وثيقة الازهر الشريف، خاصة أن هذه الوثيقة التي اطلقت في خضم الربيع العربي، قد حظيت بمناقشة نخبة من المثقفين المصريين من مختلف الطوائف والمدارس الفكرية.كما أنها لاقت عقب صدورها ترحيبا وقبولا وثناء من تيارات فكرية متباينة. وقد تضمنت الوثيقة 11 بندا نقتبس منها البنود التالية التي تتناول الجانب السياسي من المنظور الإسلامي: دعم تأسيس الدولة الوطنية الدستورية الديمقراطية الحديثة، التى تعتمد على دستور ترتضيه الأمة، يفصل بين سلطات الدولة ومؤسساتها القانونية الحاكمة، ويحدد إطار الحكم، ويضمن الحقوق والواجبات لكل أفرادها على قدم المساواة، بحيث تكون سلطة التشريع فيها لنواب الشعب؛ بما يتوافق مع المفهوم الإسلامى الصحيح، حيث لم يعرف الإسلام لا فى تشريعاته ولا حضارته ولا تاريخه ما يعرف فى الثقافات الأخرى بالدولة الدينية الكهنوتية ، بل ترك للناس إدارة مجتمعاتهم واختيار الآليات والمؤسسات المحققة لمصالحهم، شريطة أن تكون المبادئ الكلية للشريعة الإسلامية هى المصدر الأساسى للتشريع، وبما يضمن لأتباع الديانات السماوية الأخرى الاحتكام إلى شرائعهم الدينية فى قضايا الأحوال الشخصية. - اعتماد النظام الديمقراطى، القائم على الانتخاب الحر المباشر، لأنه الصيغةَ العصرية لتحقيق مبادئ الشورى الإسلامية، بما يضمنه من تعددية ومن تداول سلمى للسلطة، ومن تحديد للاختصاصات ومراقبة للأداء ومحاسبة للمسئولين أمام ممثلى الشعب، وتوخى منافع الناس ومصالحهم العامة فى جميع التشريعات والقرارات، وإدارة شئون الدولة بالقانون - والقانون وحده وملاحقة الفساد وتحقيق الشفافية التامة وحرية الحصول على المعلومات وتداولها. ت- الالتزام بمنظومة الحريات الأساسية فى الفكر والرأى، مع الاحترام الكامل لحقوق الإنسان والمرأة والطفل، و تأكيد مبدأ التعددية واحترام الأديان السماوية، واعتبار المواطنة مناط المسئولية فى المجتمع.إن تجديد الخطاب الإسلامي على النحو المنشود يتطلب ترسيخ القيم والمقاصد الإسلامية الكبرى وفي مقدمتها قيم الكرامة والعدل والحرية والتسامح والسلام. وهذه المهمة تتطلب أن نزيح عن الفكر الإسلامى السائد ما تراكم من مفاهيم وقيم سلبية تم زرعها فى عصور الجمود، وبخاصة المبالغة فى تقرير السلطة المطلقة للحكام على حساب الحقوق والحريات الأساسية للمواطنين. لمزيد من مقالات د. محمد يونس