حين ضاقت صدور مكة على دعوة نبى الرحمة والجمال، محمدٌ صلى الله عليه وسلم، هاجر إلى المدينة حاملاً راية للحياة، ينشد أن يرفعها فى أفق الإنسانية كلها، فما كان من أهلها إلا أن خرجوا فى استقباله متخذين من «الفن» رسالة استقبال لمعلم كل الأجيال. أنشد أهل المدينة (طلع البدر علينا من ثنيات الوداع وجب الشكر علينا ما دعا لله داع)، وصار النشيد -الفن- الذى توارثناه جيلاً بعد جيل. إن «القوة الناعمة» للفنون قادرة على أن تصنع التغيير الحقيقى فى النفوس، حيث إن القبح هو أول الأدوات التى تسلب الحياة ميزات الاستمرارية، تماماً كما أنه أول المعاول القادرة على هدم الحضارة، ولعل الجدل الذى دار فى صدر الإسلام حول (حِل الفن وحرمته، وجواز سماع الغناء والموسيقى من عدمه)، كان سبباً رئيساً فى (تصحير) الشخصية الإسلامية و(تسطيح) وعيها، حتى قَسَّم هذا الجدل الناس إلى معسكرين، أحدهما (مُفَرِط) و الآخر (متدين). ومع تطور الفعل التفتيتى للعالم الإسلامي، باتت تنظيمات الإسلام السياسى وعلى رأسها (تنظيم الإخوان)، تستخدم فتاوى تحريم الفنون خاصة الغناء والموسيقي، باعتبارها واحدة من مظاهر تمددها وانتشارها وربما خصوصيتها، حيث بنت هذه التنظيمات عالماً موازياً للعالم الواقعى له فنونه التى تُحرم ما أحل الله (إبداعاً) لصالح بناء عالم التنظيم الذى يستحل اختصار الإسلام فى (مناهجه)، ويقصر كل ألوان الإبداع على إبداع (صحراوى بدوي)، ينشد بغير طرب، ويطرب بسماع ألحان إيقاعها طلقات البنادق، وكلماتها من عينة (خندقى قبرى وقبرى خندقى وزنادى صامت لم ينطقى)! لكن القبح فى واقعنا تجاوز استثمار (تنظيمات الدين السياسى)، ليتحول إلى سلعة يتاجر فيها كل باحث عن الثراء فى عالم المقتاتين على موائد (أزمنة الحروب)، داهمنا القبح ليصير (إعلاماً) لحنه الزعيق، وإيقاعه الفتنة، وكلماته الشتات، وعدته السب والقذف، واقتحمنا القبح ليتحول إلى (فيديو كليب) يصدر طرب العيون، ويُصادر كل قدرة على التذوق إلا ما كان غريزياً، واحتل القبح عقول أجيال نمت فى أزمنة الفساد والإفساد، ليصير «مهرجانات» يصنع أغانيها من فقد كل يقين فى قدوة أو نموذج، ويصنع نجومها من تحول من تجارة (اللحوم) إلى تجارة (اللحون)! صار القبح حصاراً يضرب أسواره حول وعينا أينما توجهنا، يقتحم أرواحنا ليأكل ما تبقى من عصف الفساد والإفساد بها، واستحال سهاماً موجهة صوب أمننا القومي، يستهدف العقول القادمة حتى لا تنهض أو تتحرر أو حتى تفكر. هذا الواقع دفع فنانً مصرى خالص مثل الريس زكريا إبراهيم (فنان السمسمية) إلى أن يخشى من قدرة الأجيال القادمة على استيعاب الفنون المصرية الأصيلة، قال لكاتب هذه السطور ( من سنة 1980 وأنا أحاول أن ألملم شتات الفنون المصرية الشعبية التى أوشكت على الاندثار، أرخنا ووثقنا وسجلنا وشاركنا فى مهرجانات عالمية ولكن صراعنا مع الزمن الذى يأكل الأعمار يوشك على أن يدخل جولته الأخيرة فهل ستجد الراية من يحملها بين أجيال يسحق ذائقتها إيقاع أغانى التوكتوك، ويحارب ارتباطها بتراثها الفنى أدعياء التدين، ويكبل موظفى الثقافة طموح الباحثين عن الفن الأصيل؟). مفزع هو إحساس الفنان الأصيل، صرح بذلك الأسبوع الفائت، حين كان عائداً من جنازة أحد رفاق السمسمية الفنان البورسعيدى (جمال عوض). الريس زكريا رمى أسئلته فى وجه واقعنا، ليحاول كل باحث عن مستقبل هذا الوطن أن يكتب لها إجابة، وليسعى كل زائد عن حمى الأمن القومى المصرى لوضع استراتيجية ممانعة تحفظ لمصر هويتها، ولفنونها امتدادها وتطورها. ثم كان أن دعتنى كبرى بناتى (أولى ثانوى)، لحضور حفل فى (دار أوبرا دمنهور)، للفنانة التونسية غالية بن على، والمدهش أن أعمار الغالبية العظمى من الجمهور، كان ما بين الثانية عشرة والخامسة والعشرين، والأكثر إدهاشاً أن هذا الجمهور حديث السن، كان يُردد مع فنانة تونس أغانيها المتنوعة، ما بين الصوفية (أدين بدين الحب)، والتراثية (لما بدا يتثني) و(قل للمليحة)، والكلثومية (ألف ليلة وليلة). عايش كاتب هذه السطور، حالة هجرة مصرية من دنيا أشباه الفنون، إلى واقع فن قادر على أن يبنى وعى جيل قادم، إن أهمية هذه الهجرة الشابة إلى (أوبرا دمنهور)، تنبع من كونها قادمة من الأقاليم بعيداً عن مقر الأوبرا الرئيسى فى القاهرة، حيث الشرائح التقليدية لروادها. وهو ما يشير إلى أن الانتصار للجمال (فطرة) أصيلة فطر الله الناس عليها. و يؤكد فى الوقت ذاته على أن جيلاً جديداً فى هذا الوطن قادر على أن يحمل راية النهضة إن توفرات له الأسباب، بل وقادر على أن يصنع لنفسه أسباب الحماية من فيروسات تدعى زوراً انتسابها للفن . صكانت هجرة الرسول عليه الصلاة والسلام فعلاً إنسانياً للهروب من القبح، سعياً لجمال منشود، واستقبله مواطنو المدينة (فناً) نردد صداه ليومنا، وفى هذه الذكرى تفرض تحديات الواقع على علماء الإسلام أن يحيوا هذه الذكرى بنشر ثقافة (الجمال فى الإسلام)، حتى نستطيع أن نحصن وعى واقعنا من قبح التطرف والابتذال، ويحتم على مؤسسات الثقافة فى مصر «القادمة» أن تُعيد تقييم أدائها ليلبى طموح أجيال قادمة قررت الهجرة من «قبح» صنعه من أفسد، إلى جمال ينشده من يحلم، إنه أبسط حقوق المواطن فى وطن بحجم مصر. لمزيد من مقالات عبد الجليل الشرنوبى