الإسلام الذي عظم العقل, ووضعه في أرفع المنازل, لابد أن يعظم عمل هذا العقل وهو التفكير, الأمر الذي يلحظه الذين يحصون عدد الآياتالتي تشير إلي التفكير في القرآن الكريم. كما يلحظون أن هذه الآيات القرآنية الكريمة لا تكتفي بمجرد توجيه الإسان إلي التفكير في شيء من العمق, وبعد النظر.. بل ترمي بمن لا يفكرون في أسرار هذا الكون بعدم التعقل تارة, أو عدم التبصر تارة أخري. ومن هنا يتضح أن القرآن الكريم هو أول كتاب سماوي فرض التفكير علي المسلمين, وأوجبه عليهم في تفهم أسرار الكون, وخفايا الوجود, حتي يصلوا بعد ذلك إلي معرفة مبدع هذا الكون, وخالق ذلك الوجود: الله الواحد الأحد, والإيمان بهذه الوحدانية إيمانا مطلقا وفق تفكيرهم. والقرآن الكريم وقد كرم العقل الذي يفكر, ويستخلص من تفكيره زبدة الرأي والروية عبر عن ذلك بكلمات كثيرة, فهو إن كان يدعو إلي النظر والاعتبار, التفكر والتأمل, التدبر والتبصر.. إلي آخر هذه الكلمات المختلفة في شكلها, فإنها تتحد في معني واحد هو إعمال العقل: أي التفكير, ومن هذه الآيات القرآنية الكريمة التي يؤكد تكرارها تقدير القرآن لقيمة وأهمية التفكير قوله تعالي: هل يستوي الأعمي والبصير أفلا تتفكرون وقوله: أو لم ينظروا إلي ملكوت السماوات والأرض, وقوله: والله يؤيد من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار, وقوله: ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون, وقوله: فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون, بهذه الآيات وغيرها في القرآن الكريم تقررت فريضة التفكير في الإسلام, وتبين عنها كما يذهب العقاد أن العقل الذي يخاطبه الإسلام, هو نفسه العقل الذي يعصم الضمير, ويدرك الحقائق, ويميز بين الأمور, ويوازن بين الأضداد ويتبصر, ويتدبر, ويتأمل ويجسم الأفكار, ويحدد الرؤية.. وهو بعينه العقل المفكر. كذلك يقول العقاد: والإسلام يندب من يدين به إلي مرتبة في التفكير أعلي من هذه المرتبة التي تدفع عنه الملامة, أو تمنع عنه المؤاخذة, فيستحب للإنسان أن يبلغ الإسلام بمحض حكمته, وتمام رشده, وهنا يبدو فضل الحكمة والرشد علي مجرد التعقل والفهم من آيات منها قوله تعالي: ومن يؤتي الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا. وهناك أيضا العديد من الآراء المباشرة وغير المباشرة.. تلك التي كتبت عن حرية التفكير في الإسلام منها كتاب الحرية في الإسلام للدكتور علي عبد الواحد وافي, وفيه يسجل بالحجة والبرهان أن الإسلام أقر حرية التفكير في أوسع نطاق, فمنح كل فرد يعيش في ظلاله الحق في النظر والتفكير وإبداء الرأي عن أي شيء يشاء, وبأي أسلوب يريد, وعلي هذا النحو سار الرسول صلي الله عليه وسلم, وسار من بعده الخلفاء الراشدون رضوان الله عليهم, حيث كانت حرية التفكير والرأي في عهودهم مكفولة مقررة, محاطة بسياج من القدسية والاحترام, وباستقراء تاريخ هذه المرحلة الذهبية التي تمثل مبادئ الإسلام أصدق تمثيل لا نجد أي محاولة من جانب أولي الأمر للحجر علي حرية التفكير أو الرأي. بل إن احترام بعض الخلفاء بعد ذلك لحرية التفكير حتي في عصري بني أمية وبني العباس قد بلغ حدا جعلهم يتحرجون من وضع أي قيد في هذه السبيل.. فكان الناس في عهد خامس الخلفاء عمر بن عبدالعزيز من الأمويين, أو في عهد الخليفة العباسي المأمون يناقشون بكامل الحرية الخليفة نفسه في شأن من يستحق الخلافة من بعده من أسرته, وغير ذلك من الأمور التي تؤكد مبدأ حرية الفكر في الإسلام.. وعلي هذا النحو من اهتمام الإسلام بحرية الفكر يتناسق جوهر هذا الدين مع توجيهاته فتأتي فيه التوجيهات بالتفكير الصحيح منطقية في دين يفرض المنطق السليم, والتعقل المستنير علي أتباعه.