الحلقة الثالثة...حرية الاعتقاد في وجود الله هي قمة حرية الرأي في الإسلام. وإذا كانت للإنسان في نصوص القرآن الحرية في أن يكفر بالله فإن له بالتالي الحرية في أن يكفر بالحاكم أو بأي سلطة دينية أو مدنية أو بأي فكرة إنسانية مهما كان مصدرها( نفسه ص46) وهنا ينبغي التوقف طويلا أمام قوله تعالي لا إكراه في الدين قاعدة كبري من قواعد دين الإسلام, وركن عظيم من أركان سياسته, فهو لايجيز إكراه أحد علي الدخول فيه, ولايسمح لأحد أن يكره أحدا من أهله علي الخروج منه, حتي عندما يتنطع البعض ويتحدث عن قتل المرتد عن الإسلام, واحد من أعتي من وصفوا بالتطرف والتشدد من فقهاء المسلمين وهو الفقيه الحنبلي ابن تيمية ليقرر أن المرتد في الإسلام لايقتل لارتداده عن دين الإسلام وإنما لمحاربته للمسلمين ويستند بن تيمية في فتواه تلك علي حديث عائشة الذي أورده البخاري في صحيحه لايحل دم أمرئ مسلم إلا لثلاث: الثيب الزاني, والنفس بالنفس, والتارك لدينه المفارق للجماعة وحمل بن تيمية مفارقة الجماعة في الحديث علي محاربتها وسار في نهجه جميع علماء الشرع من بعده خاصة الحنابلة منهم. لقد أمرنا أن ندعو إلي سبيل ربنا بالحكمة والموعظة الحسنة, وأن نجادل المخالفين بالتي هي أحسن, معتمدين علي أن تبين الرشد من الغي هو الطريق المستقيم الي الإيمان, مع حرية الدعوة, وأمن الفتنة, فالجهاد من الدين بهذا الاعتبار, أي أنه ليس من جوهره ومقاصده, وإنما هو سياج له وجنة, فهو أمر سياسي لازم له للضرورة, ولا التفات لما يهذي به العوام ومعلموهم, إذا يزعمون أن الدين قام بالسيف, وأن الجهاد مطلوب لذاته, فالقرآن في جملته وتفصيله حجة عليهم( عبد المتعال الصعيدي حرية الفكر في الإسلام ص18) لقد نزلت الآية السابقة لا إكراه في الدين في سورة مدنية, حين كانت للإسلام دولة وقوة. ولكن هذا المبدأ نزل في مكة من قبل, حين أخذت النبي عليه السلام نوبة حماس فكان يبالغ في الإلحاح علي الناس كي يؤمنوا فقال له تعالي يذكره بمشيئة الرحمن: ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتي يكونوا مؤمنين يونس:99 وأمره الله تعالي بالإعراض عن الذي يتمسك بعقيدته المشركة لأن الله تعالي بعثه مجرد نذير يبلغ الرسالة وليس عليهم بمسيطر إن إلينا إيابهم الغاشية:25 إن الله وحده هو الذي سيحاسبهم يوم القيامة ثم إن علينا حسابهم الغاشية:26 للنبي حقه في أن يخلص دينه لله وحده, وعليه أن يحترم حق خصومه في أن يعبدوا غير الله. أمره الله أن يقول هذا:( قل الله أعبد مخلصا له ديني(14) فاعبدوا ماشئتم من دونه قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين الزمر:14 15 أي جعل لهم مشيئة, ونزلت سورة كاملة تقول: قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون.. وفي آخرها لكم دينكم ولي دين. ويأمره الله تعالي بأن يعلن أنه يقول الحق من الله ثم لهم المشيئة الكاملة في الإيمان أو في الكفر, وعليهم تحمل المسئولية إذا كفروا: وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نادرا أحاط بهم سرادقها وأن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا الكهف:29 ويقول عن القرآن: قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلي عليهم يخرون للأذقان سجداالإسراء:107 أي لكم الحرية في أن تؤمنوا بالقرآن أو لا تؤمنوا به. في الوقت الذي ترفض فيه المؤسسات الكهنوتية إجراء حوار, وتكتفي بإصدار قرارات التكفير والردة والحرمان ضد من يخالفونها في الرأي, نري رب العزة وهو قيوم السماوات والأرض يجري حوارا مع عباده أبناء آدم ليقنعهم بأنه هو الله الواحد الذي لاشريك له( أحمد صبحي منصور مرجع سابق ص52). ماأكثر الآيات القرآنية التي تعلي من شأن الحوار, وتجعل منه مدخلا أساسا لإقامة الحجة والبرهان علي صحة العقيدة وصدقها. إن الله تعالي يحتكم إلي العقل الإنساني في إثبات زيف الادعاءات الضالة ويتردد في القرآن قوله تعالي: أفلا تعقلون؟ أفلا تبصرون لعلكم تعقلون..آني تؤفكون؟..وأن يحتكم رب العزة للعقل البشري, فإن هذا فيه تكريم لهذا العقل, واعتراف ضمني من الله بأنه هو منبع حرية الإرادة هذا في الوقت الذي تطالبنا فيه المؤسسات الكهنوتية بتعطيل وحجب التفكير ومصادرة حق المناقشة لعقائدها وأفكارها. أدلة عقلية يستشهد بها الخالق جل وعلا علي أنه الإله الذي لا إله معه, ويرد بهذه الأدلة علي آراء بعض مخلوقاته من البشر الذين يعتقدون بوجود آلهة أخري مع الله. ولولا أن الله تعالي قرر لهم حرية التفكير وحرية الاعتقاد والرأي ماسمح لهم بأن يعتقدوا تلك الاعتقادات التي تسئ الي جلال الله, ولولا أن الله تعالي ضمن لهم هذه الحرية في دينه ما أجري معهم هذا الحوار ومااحتكم الي عقولهم في إثبات فساد تلك العقائد. والله تعالي لم يستنكف أيضا أن ينزل بالحوار الي مستوي عقلية البشر كي يفهموا ويعقلوا وتقوم عليهم الحجة, فمثلا, كان لبعض أهل الكتاب تصورات عن إبراهيم, وأنزل الله تعالي الرد عليها فقال: يا أهل الكتاب لم تحآجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والانجيل إلا من بعده أفلا تعقلون(65)هاأنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لاتعلمون(66)( آل عمران:65 66) إن في ذلك أعظم تقدير لحرية البشر, وأي تقدير أعظم من أن ينزل الخالق جل وعلا قرآنا يرد به علي آراء لبعض مخلوقاته, ويقنعهم في الوقت الذي يستطيع فيه أن يدمر الأرض والسماوات. ولكن بعض المخلوقات أعطت لنفسها امتيازات تفوق مانتخيله, ولذلك فهم يستنكفون من الرد علي خصومهم في الرأي ويكتفون بإعلان كفرهم واستحلال دمائهم, والمقارنة فظيعة الله تعالي يرد علي دعاوي بعض خلقه بالأدلة العقلية, والكهنوت يستكبر عن النقاش مع أناس ينتمون مثله لآدم المخلوق من تراب( المرجع السابق54) إن الله تعالي لم يستنكف أن يسجل اراء خصومه التي لاتخرج عن السباب والتطاول وسوء الأدب. وقالت اليهود يد الله مغلولة( المائدة:64) وقالوا: الله فقير ونحن أغنياء آل عمران181 وقال فرعون للمصريين أنا ربكم الأعلي( النازعات24) كان من الممكن أن يصادر الله تعالي هذه الأقوال فلا نعلم عنها شيئا, وبعضها قيل في عصور سحيقة قبل نزول القرآن, ولولا القرآن ما علمنا عنها شيئا. إن المبدأ القرآني في الحوار يقوم علي الحكمة والموعظة الحسنة والرد علي إساءة الخصم بالتي هي أحسن وليس بمجرد الحسني يقول تعالي: ادع إلي سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن النحل/125 فالله تعالي يأمر رسوله الكريم بأن يدعو الي الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة وأن يجادل خصومه ليس بالحسني وإنما بالتي هي أحسن وإذا كان ذلك فرضا علي النبي صاحب المقا م الرفيع, فغيره من المسلمين أولي بأن يتحمل السيئة في الجدال وأن يرد عليها بالتي هي أحسن جاء التعبير عن ذلك الأمر بصيغة مؤثرة محببة, يقول تعالي: ومن أحسن قولا ممن دعا إلي الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين(33) ولاتستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم(34) وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم(35) فصلت/33:35. فالله تعالي يعتبر أحسن الناس قولا هو الذي يدعو إلي الله ويكون قدوة لغيره في العمل الصالح ويعلن انقياده أو إسلامه لله. وإذا جادله أحد وأساء إليه في دعوته وفي حواراته دفع تلك السيئة بالتي هي أحسن من الاحتمال والصبر والصفح والكلام الجميل, وحينئذ يضطر خصمه للاعتذار ويبدو بعدها كأنه ولي حميم. وتلك الدرجة من السمو الخلقي في الدعوة لايصل اليها إلا من عاني الصبر والتحمل في سبيل الله وجدير به أن يكون ذا حظ عظيم عند الله تعالي. وتزداد الصورة وضوحا إذا توقفنا أمام الرؤية القرآنية لعدد من المحاور المهمة, التي تؤكد في مجملها أن الإسلام دين لايعرف العدوان,ويرفض الاجبار( الفتنة) في الدين, ويمنح الإنسان كامل الحرية في الاختيار والإرادة في الفعل, ويحدد للرسول وظيفة محددة لا يجوز له أن يتعداها, ألا وهي البلاغ. مع التسامح وضد العدوان: علي النقيض تماما مما يذهب اليه البعض ممن أساءوا فهم رسالة الإسلام سواء من غير المسلمين أو نفر من أهل الإسلام المتشنجين والمتعنتين, فإن القرآن الكريم يرفض مايسمي الآن حروب التوسع العدوانية, ومثل هذا النمط من الحروب مرفوض ومدان بل ومحرم طبقا للنص القرآني, ذلك أن الهدف الأسمي من الجهاد في الإسلام هو حماية المستضعفين وإتاحة الفرصة لهم للإيمان عن قناعة ودون إجبار: وقاتلوهم حتي لاتكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا علي الظالمين(البقرة 193) والمسلمون مأمورون بعدم المبادرة الي القال, إلا إذا كان ردا لعدوان وقع عليهم, فالله سبحانه لايحب المعتدين. وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولاتعتدوا إن الله لايحب المعتدين ( البقرة 190) فالهدف في البداية واضح وهو اتقاء الفتنة, وعندما يتحقق السلم والاستقرار, وبعد أن ينتهوا عن العدوان,فإن القتال محرم باللفظ الصريح. العفو والصفح قيمتان يلح عليهما القرآن الكريم, وفي الحياة الإنسانية, القائمة علي التعدد والاختلاف, متسع وأي متسع للتعايش السلمي في إطار من التسامح وقبول الآخر: وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتي يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لايعلمون(6)كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين( التوبة6 7) المشرك المستجير, طالما أنه بعيد عن إلحاق الأذي وصناعة الضرر, وطالما أنه ملتزم, لايجوز أن يتعرض للأذي أوالترويع, والقرآن الكريم يدين كل أشكال العدوان والبغي ومن المهم هنا أن نتوقف في إيجاز لعرض مفهوم الفتنة التي يأمر القرآن الكريم باجتنابها والتصدي لها. مفهوم الفتنة: إن تتبع الاستخدام القرآني لمفردة الفتنة بحث شائق وممتع, والذي يعنينا هنا هو التأكيد علي الموقف الرافض للكلمة وما يترتب عليها ولعل في الاستعراض السريع لبعض الآيات مايقود إلي حقيقة الفكرة التي تهدف اليها: والفتنة أشد من القتل( البقرة 191) وقاتلوهم حتي لاتكون فتنة( البقرة 193) والفتنة أكبر من القتل البقرة 217 فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ماتشابه منه ابتغاء الفتنة( آل عمران 7) وقاتلوهم حتي لاتكون فتنة( الأنفال 39) إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير( الأنفال 73) المعني الدلالي للكلمة يقود الي القلق والاضطراب والتوتر والزيغ, وهذه المفردات جميعا تعني غياب الاستقرار والسكينة والسلام والأمان. بمثل هذا المنطق, فإن الحرب في الإسلام لاتهدف الي العدوان والتوسع والبطش, لكنها وسيلة لحماية الإنسان من القلق وكل ما يحول بينه وبين الحق المشروع في الاختيار الحر لما يؤمن به ويعتقد فيه, وحرية الاعتقاد ومنع الفتنة هنا ليستا مقصورين علي المسلم وإنما هما حق لكل إنسان كرمه الله ومنحه شرف الانتساب الي بني آدم. الإعراض وسيلة للمقاومة: ليس أدل علي الرغبة في التسامح والتعايش السلمي والحرص علي تجنب العدوان من التوجيه الإلهي للرسول بالإعراض عن معارضيه والترفع عن السقوط في مستنفع الابتذال الذي يمارسونه. الأمر صريح واضح: أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا( النساء 63) ما الذي يعنيه الإعراض هنا؟!. لاينبغي للرسول أن ينخدع بالباطل الذي يروجون له ويدعون إليه, وعليه أن يمضي في طريقه القويم مع الاستمرار في وعظهم وإرشادهم ومحاولة استقطابهم والتأثير عليهم, لكن ذلك كله لايعني تجاوزا أو عدوانا. ويتأكد المعني هنا حتي لو حاول بعضهم خداع الرسول ذاته: ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول والله يكتب ما يبيتون فأعرض عنهم وتوكل علي الله وكفي بالله وكيلا( النساء 81) الإعراض والتوكل علي الله بإحالة الأمر إليه, فليس مطلوبا من الرسول أن يهديهم بالقوة: إنك لاتهدي من أحببت. الاختلاف قائم بين الرسول عليه الصلاة السلام وبين من يخوضون في آيات الله, لكن التوجيه الالهي حاسم, نهي عن العنف وتوجيه بالمسالمة: وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتي يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكري مع القوم الظالمين( الأنعام 68) وفي ذات السورة آية تؤكد المعني نفسه وترسخه: اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين الأنعام 106 ويعلق الشيخ محمد الغزالي علي الآية قائلا: هذه الآيات من ألمع الأدلة علي احترام الإسلام لحرية الإرادة وبنائه الإيمان علي الاقتناع المجرد( محمد الغزالي: جهاد الدعوة بين عجز الداخل وكيد الخارج ص29) المهم أن تقدم الدعوة مقرون ببراهينها التي تجعلها بصائر للناس, وأن تستثير العلم الفطري المركوز في الطبائع حتي يكون عونا لك. وأن تكون صورة متقنة لما تدعو إليه أو لما أوحي إليك. إن إعراضك عن المبطل بعد هذا يتركه في وحشة نفسية مقلقة قد تكون باعثة بعدئذ علي تصديقك. ولست مكلفا بحمل الناس علي اليقين بالقوة ملكتها أو لم تملكها, فلاوزن لإيمان من هذا النوع ويستمر التوجيه القرآني في الدائرة نفسها: خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين( الأعراف 199) الإعراض أمر الهي يتكرر في كثير من الآيات, وفي آيات أخري تظهر مفردة ذر للتعبير عن المعني نفسه: وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا الأنعام 70 ثم ذرهم في خوضهم يلعبون( الأنعام 91) ولله الأسماء الحسني فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون( الأعراف 180) فذرهم في غمرتهم حتي حين المؤمنون 54 فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتي يلاقوا يومهم الذي يوعدون( الزخرف 83) فذرهم حتي يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون( الطور 45) فذرني ومن يكذب بهذا الحديث سنستدرجهم من حيث لايعلمون( القلم 44) فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتي يلاقوا يومهم الذي يوعدون( المعارج 42) وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلا( المزمل 11) ذرني ومن خلقت وحيدا( المدثر 11) كل هذه الآيات, المدنية منها والمكية, تأمر الرسول وتوجهه بترك أمر الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر لله يوم يجمع الناس جميعا فلا يدع منهم أحدا, لاعقاب دنيويا ولا حجر علي رأي مهما كان نوعه أو حجم المجاهرة به أو عدد الداعين إليه. حدود وظيفة الرسول: القرآن الكريم يحدد للرسول عليه الصلاة والسلام إطارا يؤمدي من خلاله وظيفة الدعوة والبلاغ, كما أنه يحدد الأسلوب الأمثل لأداء هذه الوظيفة. يقول تعالي: ما علي الرسول إلا البلاغ( المائدة:99) إنه البلاغ الذي يخلو من شبهة الإكراه, فكل امرئ متروك لضميره, وله أن يسلم أو يستمر في كفره. المعني نفسه في سورة العنكبوت وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم وما علي الرسول إلا البلاغ المبين( العنكبوت:18) الرسول مطالب بالبلاغ, وهو بالنص القرآني ليس حفيظا أو وكيلا, فهو مبلغ دون أن يكون ملزما بالهداية, بل ان هذا البلاغ محدد وفق قواعد لايغفل عنها القرآن: فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لايوقنون( الروم:60) فاصبر لحكم ربك ولاتكن كصاحب الحوت إذ نادي وهو مكظوم( القلم:48) واصبر علي مايقولون واهجرهم هجرا جميلا( المزمل:10) فاصبر لحكم ربك ولاتطع منهم آثما أو كفورا( الإنسان:24) الصبر هنا سلوك حضاري يمثل أرقي درجات التحضر, وهو مقدمة لابد منها قبل أن يصل التوجيه القرآني إلي ذروته الشامخة: ولاتستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم( فصلت:34)