كنت ما زلت واقفا على أبواب مركز إيتاى البارود الذى تتبعه قريتي. هذا هو المركز الذى ورد ذكره فى موال أدهم الشرقاوي. وكنا نستمع إليه من الإذاعة المصرية وقت أن كان الراديو له سلطان على الاذن. قبل أن نتشتت أمام شاشات التليفزيون ما بين الصوت والصورة. ما بين الإعلان والخبر. ما بين الدراما والسينما. ثم أخيراً أمام ما نسميه برامج التوك شو. جاء أدهم. ربما إلى نفس المكان الذى أقف فيه الآن. كان مرتدياً كما يقول الموال زى ضابط شرطة. وتمكَّن من الحصول على الأسلحة والذخيرة من أجل محاربة الإقطاع والإنجليز. أخذ من الأغنياء لكى يعطى الفقراء. وصنع أسطورة البطل الشعبى فى الناحية كلها. وإن كان بعض المتحذلقين من المثقفين يدعون أنه لص وقاطع طريق. وأنه لم يخطر على باله حكاية محاربة الإنجليز ولا أن يأخذ من الإقطاعيين ما يزيد عن حاجاتهم. ثم يعيد توزيعها على الفقراء. وبعض من ينحدرون من عائلات إقطاعية فى الناحية يتحدثون عن عمليات سلب ونهب قام بها الأدهم لجدود أجدادهم. ويهاجمونه بلا رحمة. عندما تقول لهم إن عبدالناصر عندما اختار وزيراً للعدل فى زمنه. اختار فتحى الشرقاوي. الذى كان يمت بصلة قرابة لأدهم الشرقاوي. يقولون لك: لا علاقة بين الأمرين. عموماً ربما كان لأدهم الشرقاوى فى حياته ما يستحق الكتابة فى سياق غير هذا. فقد كان البطل الشعبى لطفولتى المبكرة. ربما تعود إيتاى البارود لمحمود سامى البارودي. شاعر السيف والقلم. ورفيق وزميل أحمد عرابى فى ثورته التى يسميها العامة فى قريتي: هوجة عرابي. بل إن بعض من يدعون العلم فى التاريخ يقولون إن إيتاى البارود كانت مخزناً للبارود أيام ثورة عرابى عندما زحف على كفر الدوار لمقابلة المحتل. قبل أن يتحول إلى الشرقية. كان يتصور أن الإنجليز سيحضرون من الإسكندرية. لكنه اكتشف أنهم جاءوا عن طريق قناة السويس. النطق العامى لإسمها: تييه البارود. أما إيتاي، فلا ينطقها سوى من يقرأون ويكتبون. لا تتصور أن إيتاى البارود مدينة جميلة. فهى إما أنها قرية كبرت أكثر من اللازم أو مدينة تريفت. عندما ذهبت إلى مندوب التجنيد كان بها شارع واحد مرصوف. هو الشارع الموصل من محطة القطار على خط مصر اسكندرية الملاصق لطريق مصر اسكندرية الزراعي. ويمتد الشارع المرصوف من المركز إلى المستشفى العمومي. أما المبانى فكانت قديمة. متآكلة. لا ألوان لها. ومثل كل البنادر الصغيرة ثمة مطعم وبجواره مقهى وبالقرب منه صيدلية وباحة واسعة يقام فيها السوق الإسبوعية فى المركز. وزبائن هذه السوق يأتون إما للبيع أو للشراء من القرى المجاورة للمركز. وللسوق يوم أسبوعى ثابت. كان مبنى المركز صامتاً فى ذلك الصباح الشتوي. نظرت إلى الجدران والأبواب والحجارة. سنوات تفصلنا عن الحدث الكبير الذى هز مصر كلها. حادثة أدهم الشرقاوي. الذى ينتمى إلى عزبة قريبة من المركز. اسمها: زبيدة. وزبيدة اسم امرأة وجدت فى زمن أدهم الشرقاوي. كانت ابنة إقطاعيين يمتلكون الأرض ومن عليها. ومع هذا من يذكر تلك الأيام البعيدة؟!. لم يبق من الحكاية سوى موال «منين أجيب ناس» الذى غناه محمد رشدى فى الصورة الإذاعية الجميلة. التى قدمتها الإذاعة المصرية فى تلك الأيام التى كانت تنتج فيها برامج إذاعية غنائية. مثل عواد باع أرضه. ومن بعده غنى عبد الحليم حافظ الموال فى فيلم سينمائى لعب بطولته: عبد الله غيث. وعرفت لاحقاً بعد أن أصبحت من سكان القاهرة وعملت بالصحافة، وقابلت الفنان محمد رشدي.عرفت منه أن عبد الحليم حافظ أحس بالغيرة الشديدة من النجاح الذى حققه موال أدهم الشرقاوى عندما غناه محمد رشدي. فقرر ألا يترك له هذا. وغنى نفس الموال فى فيلم سينمائى لم يحقق النجاح المكتسح الذى حققه موال محمد رشدي. قال لى رشدى يومها إنه عندما غني: «تحت الصجر يا وهيبة ياما كلنا برتقان» لم يهدأ بال عبد الحليم حافظ إلا بعد أن تحول من غنائه العاطفى إلى غناء شعبي. وكانت البداية أغنية: «أنا كل ماجول التوبة ترمينى المجادير». التى غناها عبد الحليم حافظ. إنها أيضاً حكاية أخرى. ركبت القطار من محطة إيتاى البارود. متجهاً إلى الإسكندرية، نازلاً إلى بحري. توقف القطار طويلاً فى دمنهور عاصمة المحافظة، محافظة البحيرة. ثم كفر الدوار. المدينة الصناعية الكبري. وفيها عدد لا بأس به من عمالها. من قريتي. هجروا الزراعة مبكراً وحضروا إلى هنا. تحولوا إلى عمال بقدرة قادر، وعاشوا فى هذه المدينة المزدحمة والمكتظة بالسكان. كان أحد مدراء المصنع مسيحياً من قرية حصة الضهرية. وهى جزء من قريتى الضهرية. لكنها سميت هكذا لسكن الإخوة المسيحيين فيها. ثم اختلطت الأمور وتداخلت وسكن المسلمون حصة الضهرية. وبقى بعض المسيحيين فى الضهرية ثم لم يعد من الممكن أن تفصل الضهرية عن الحصة، أو أن تقول هذه حدود حصة الضهرية التى تفصلها عن الضهرية. توسع المهندس بلدياتي، وربما كان اسمه: نجيب بغدادى فى تعيين أبناء قريتى فى مصانع كفر الدوار. وأصبحت فى المدينة عزوة من أبناء الضهرية والقرى المحيطة بها. وكان أحدهم ابن عم والدي. ومن هذه المدينة خرج خميس والبكرى العاملان اللذان أعدمتهما ثورة يوليو فى أيامها الأولي. والذى وقع قرار الإعدام كان اللواء محمد نجيب وليس البكباشى جمال عبد الناصر. كما حاول أن يقول هذا بعض المؤرخين الذين ناصبوا ثورة يوليو العداء بمجرد أن أعلن السادات أنه سيمشى على طريق عبد الناصر ولكن بأستيكة. لم يذكر السادات الأستيكة هذا لكن ما قاله كان الوجدان الشعبى للناس العاديين فى الشارع. بعد أن وجدوه يقول كلاماً ويفعل عكسه فيما يخص موقفه من تجربة عبد الناصر وثورة يوليو. المهم أن إعدام خميس والبكرى صنع تلك المسافة بين يوليو والشيوعيين المصريين. ثم أبو حمص. خرج منها، الفنان عبد العزيز مخيون. وعاد إليها أخيرا بعد أن وصل للضفة الأخرى لليأس القاهرى. لمزيد من مقالات يوسف القعيد