لن أضيف جديدا إذا تحدثت عن أخطاء المرحلة الانتقالية, وتعقيداتها, والتي بددت الكثير من طاقة الثورة, وكادت تقضي عليها. وإذا كان المجلس العسكري المسئول الأول عن كل ما جري, فإن الرغبة الجامحة والمتعجلة للإخوان في السلطة تأتي في المرتبة الثانية, يليها انقسام النخبة السياسية وانتهازية بعض المثقفين, ثم تأتي الضغوط الخارجية في المرتبة الرابعة من المسئولية, ثم تحل أخيرا النزعة المثالية والتطرف لدي بعض شباب الثورة. إشكالية أن كل الأطراف الوطنية المسئولة عن كوارث المرحلة الانتقالية والأزمة التي نعيشها تعتقد أنها لم ترتكب أي خطأ, لذلك يغيب النقد الذاتي وتتعثر محاولات الإصلاح أو حتي التوافق علي مخرج للأزمة. أدي فشل المرحلة الانتقالية إلي تزامن غريب ومريب بين كتابة الدستور وانتخاب الرئيس, فالناس عليها انتخاب الرئيس دون أن تعرف صلاحياته, بل دون أن يعرف المرشحون أنفسهم ما هي صلاحيات الرئيس أو شكل النظام السياسي. ومع ذلك انطلق السباق الرئاسي, بينما تعثرت كتابة الدستور, في وقت كان الرهان فيه علي إنجاز الدستور قبل انتخاب الرئيس. هنا طفت علي السطح ملامح أزمة انتخاب الرئيس ام الدستور, وهي ازمة ذات طابع ثنائي مثل كل أزمات المرحلة الانتقالية, فقد بدأنا العام الماضي بأزمة الدستور أولا أم الانتخابات, ولم يطرح خيار ثالث, ثم تفجرت أزمة انتخابات البرلمان بالقوائم أم بالنظام الفردي, ومع وثيقة السلمي طرحت ثنائية مبادئ فوق دستورية أم دستور, وثنائية دولة مدنية أم إسلامية, وتعدلت الثنائيات المأزومة إلي تأسيسية الدستور من خارج أم من داخل البرلمان؟. انشغلت النخبة بهذه الثنائيات والصراع حولها علي حساب الاهتمام بقضايا الأمن والاقتصاد والعدالة الاجتماعية, وغاب عن النخبة حسابات الزمن وموعد تسليم السلطة في نهاية يونيو, حتي وصلنا إلي أزمة كتابة الدستور أولا أم انتخاب الرئيس, وهي ثنائية جديدة ومحيرة, تجسد كل إخفاقات المرحلة الانتقالية وصراع المجلس العسكري والإسلاميين والقوي المدنية علي السلطة. فمغامرة الإخوان للانفراد بكتابة الدستور واحتكار سلطة التشريع والوزارة والرئاسة أهدرت الكثير من الوقت, والأهم أنها أنهت علاقة التفاهم بين الإخوان والمجلس العسكري, وفتحت المجال لاحتمالات صدام بينهما أو تفاهمات جديدة أراها تقترب بمقدار ما يقترب الطرفان من حافة الهاوية, واعتقد أن مواد الدستور في القلب من هذه التفاهمات. من غير المنطقي أنتخاب رئيس قبل دستور يحدد مهامه وصلاحياته, والخطر أن يشارك الرئيس في كتابة الدستور لأن وجوده المادي وسطوته الرمزية ستؤثر بلا شك في كتابة الدستور, أو علي الأقل المواد الخاصة بصلاحياته, ومن المفهوم أيضا ألا يسلم المجلس السلطة إلا بعد أن يطمئن إلي مكانة الجيش وصلاحياته في الدستور والدولة. في المقابل يدعي الإخوان والقوي المدنية قدرتهم علي التوافق بشأن الجمعية التأسيسية وكتابة الدستور قبل انتخاب الرئيس, أي خلال34 يوما من الآن, وهي مهمة صعبة للغاية, فكيف يمكن للنخبة المنقسمة علي نفسها العمل المشترك, والتوافق علي هوية الدولة وطبيعة النظام الاقتصادي, وحدود العدالة الاجتماعية ووسائل تحقيقها؟. لقد فشلت القوي الإسلامية والمدنية في التوافق علي هذه القضايا خلال أكثر من عام شهد حوارا مجتمعيا حقيقيا, فهل يمكن أن نتوقع لها النجاح في ذلك خلال أقل من خمسة أسابيع؟. لابد أن ندعم مشاركة الناس في كتابة الدستور ومناقشته والتي أصبحت إمكانية ميسورة بفضل تكنولوجيا الاتصال, وهي ميزة لم تكن متوافرة في كل دساتير مصر السابقة, لكن الاستسهال والتسرع سيحرم المواطنين من ممارسة هذا الحق, كما سيحرم الدستور نفسه من تخليق آليات شعبية للدفاع عنه في المستقبل إذا ما تعرض لسطو أو عدوان من أغلبية طامعة أو عسكر منفلتين. إن التسرع والاستسهال يقودان إلي التقليل من أهمية الدستور بل والاستخفاف به, حيث ادعي البعض أن كتابة الدستور تتطلب عدة أيام من عمل لجنة مختارة من فقهاء القانون, ما يعني أولا القضاء علي فكرة المشاركة الشعبية, وتحويل الدستور إلي نوع من الكهنوت التخصصي الذي لا يحق لغير النخبة الاشتراك فيه. ثم هل يمكن أن نتسرع في كتابة دستور ثورة25 يناير لدرجة أن ننقل من دستور1971, الذي سبق لنا الإطاحة به!!. سيقال إن النقل عن الدستور السابق سيقتصر علي أبواب ومواد معينة بهدف ضمان التوافق وتجنب الشقاق والإسراع بانجاز المهمة المطلوبة, ما يعني أن أول دستور مصري في القرن الجديد تحول إلي مجرد مهمة تخضع لاكراهات الوقت و توازنات السياسية وصراعات قوي متغيرة, في لحظة تاريخية معينة, بينما الدستور هو وثيقة إستراتيجية للعيش المشترك عبر حقب زمنية مختلفة. ما يعني أن المتغير سيحكم الثابت نسبيا. أتصور ان التلويح او ربما التفكير في إمكانية تأجيل انتخابات الرئيس قد يمثل عنصرا ضاغطا علي النخبة المنقسمة كي تفي بالتزاماتها وتحترم خريطة الطريق التي طالبت بها. لكن التلويح بتأجيل الانتخابات يدفع الإخوان للتقارب السريع مع القوي المدنية بسبب الخوف المشترك من استمرار العسكر في السلطة. أعتقد أن شكوك ومخاوف الطرفين, وسياسة حافة الهاوية بين الإخوان والعسكر فضلا عن أزمة الثقة بين كل الأطراف ستدفع الجميع للتمسك بموعد انتخابات الرئاسة وتسليم السلطة في موعدها, مع الاستسهال والتسرع في كتابة دستور يضمن استمرار المكانة المميزة للجيش في النظام السياسي. وهو ما أتحفظ عليه, فمصر تستحق دستورا جديدا في معناه ومبناه, يشارك المواطنون في كتابته ومناقشته.