رغم أن عمره تجاوز 40 عاما ،إلا أن نسبة ليست كبيرة من سكان العاصمة تعرف بوجوده، فضلا عن أن تكون زارته، خاصة أن أحدا لا يمكن أن يخطر بباله أن تلك المنطقة المكدسة ببالات القمامة بمنشية ناصر ، تخفى خلفها هذ المكان الروحانى المهيب فى حضن الجبل. نظلمه اذا اعتبرناه مجرد «دير» يضم مجموعة من الكنائس، يتوجه له الناس للتعبد والصلاة.. بل هو فى الحقيقة مكان يمنح زائره مزيجا من مشاعر الرهبة والافتتان والإنبهار.. صخور الجبل تحيطك وتظللك من كل جانب.. تبدو حادة ومخيفة، ومع ذلك لا تشعر أسفلها سوى بالحماية والأمان والاحتواء.. إنه دير سمعان الخراز- أو الدباغ.. «أدهم» ذلك الشاب الذى يستقبل الزائرين، طاف بنا فى أرجاء المكان، يحكى بحماس واسترسال حكاية الدير وكنائسه الخمسة ، والتى تتماس مع تاريخ المسيحية والرهبنة فى مصر ،فضلا عن «بركة» المكان التى تحل على زائريه، وتلك الغرفة التى تمتلئ «بالكراسى المتحركة» بعد أن تخلى عنها أصحابها،اذ استعادوا قدرتهم على الحركة ببركة يسوع المسيح.. جولتنا بدأت من أصغر كنائس الدير وتحمل اسم الأنبا بولا أول السواح والأنبا انطونيوس، وهى عبارة عن مغارة فى الجبل، يعتقد أنها كانت كنيسة قديمة فى الأصل، لكن لا توجد معلومات مؤكدة، وتم اكتشاف المكان فى عام 1986 بعد سقوط صخرة كبيرة كشفت عن فتحة مؤدية للمغارة. والانبا بولا من الاسكندرية، عرف بحياة الزهد واعتزال البشر. مكث فى قبر مهجور طالبًا الإرشاد الإلهى وهناك التقى القديس الانبا انطونيوس، الذى نشأت على يديه الرهبنة فى مصر. نقل الجبل انتقلنا لاحقا إلى الكنيسة الرئيسية التى يحمل الدير اسمها ، وترتبط بها المعجزة المعروفة فى التاريخ القبطى ب «نقل جبل المقطم» وتحمل اسم السيدة العذراء ثم أضيف لها لاحقا اسم القديس سمعان الخراز بعد اكتشاف جثمانه مدفونا فى مصر القديمة تحت سطح أرضية الكنيسة المعلقة ، ونقل جزء من رفاته إلى الدير فى بداية التسعينيات، وسمعان الخراز هو الذى تمت على يديه معجزة نقل الجبل ، تلك التى وقعت أحداثها فى عام 979 ميلاديا. تعود القصة لعهد المعز لدين الله الفاطمى وكان سياسياً محنكاً يسعى لنهضة ثقافية دينية ويسمح بالمناقشات بين أبناء الديانات المختلفة فى حضرته ، لكن رئيس الوزراء فى ذلك الوقت «يعقوب بن كلس» وكان يهودى الديانة، شعر أن مكانته مهددة وتخوف من تعيين مسيحى بدلا منه، مما دفعه للتحضير لمناظرة هدفها التشكيك فى المسيحية، وانتهى الامر بالمعز الى مطالبة البطريرك آنذاك ابرام بن زرعة السريانى باثبات آية وردت بالإنجيل تقول:» لو كان لكم إيمان مثل حبة خردل، لكنتم تقولون لهذا الجبل انتقل من هنا إلى هناك فينتقل»، وإلا سيتم إبطال دينهم تماما، ومن ثم اعتناق الاسلام أو الهجرة من البلاد.. فطلب منه البطريرك منحه مهلة ثلاثة ايام. المحنة كانت تلك الفترة بمثابة محنة للكنيسة ،طلبت فيها من شعبها الإكثار من الصلاة والصوم طلبا للنجاة، وفى صباح اليوم الثالث ظهرت مريم العذراء للبطريرك على أحد أعمدة الكنيسة المعلقة، وأخبرته بأن يخرج ليرى رجلا بعين واحدة يحمل جرة ماء سيكون هو المختار لاتمام المعجزة. وقد كان.. وفى اليوم المقرر كان الخراز بين الشعب يصلي، بينما يقوم البطريرك برسم الصليب فى مواجهة الجبل ومعه رجال الدين يحملون الأناجيل والصلبان والشموع، يرددون «كرياليسون» وتعنى « يا رب ارحم»، ساجدين قائمين، حتى وقعت زلزلة عظيمة وتحرك الجبل حتى بانت الشمس من تحته، وحينها قال المعز للبابا: «لقد أثبتم أن إيمانكم حقيقي» . «فرمان» من السماء وجاء إنشاء تلك الكنيسة فى هذا المكان تخليدا لتلك المعجزة بعد عشرة قرون على حدوثها، أما حكاية بنائها فهى قصة أخري، بطلها كاهن الكنيسة الحالى ، اذ كان يلتقى به أحد جامعى القمامة فى المنطقة، وظل يدعوه لزيارة منطقة الزبالين بالمقطم ، إلى أن استجاب فى عام 1974، وهناك شعر بأن الله يريد شيئاً فى هذه المنطقة، فطلب من أهلها إرشاده لمكان هادئ..وفى مغارة كبيرة فى قمة الجبل، داوم على الصلاة يوم الأحد من كل أسبوع لمدة ثلاثة أسابيع ، إلى أن وقعت عاصفة أثناء صلاته، ألقت بورقة صغيرة عليها آيات من سفر أعمال الرسل فاعتبرها الكاهن صوت الله له ، أو كما علق البابا شنودة الثالث : «إنها ليست ورقة ... بل فرمان سماوي». ومن هنا بدأ العمل وتطور تدريجيا، فبعد أن كانت الكنيسة متواضعة مبنية من الصاج والبوص، وصلت مساحتها الآن إلى الف متر مربع، وتتسع لعشرين ألف مصل، وعندما افتتحها البابا شنودة فى 1976 قال لأهل المنطقة.. «هانبعتلكم أب كاهن يرعى الكنيسة».. فردوا عليه « عاوزين الأستاذ فرحات .. هو تعب معانا، فخليه يكون كاهن علينا» فنظر البابا إليه وقال: تعال نرسمك على كنيسة العذراء.. فقال: « يا سيدنا كل ما بطلع الجبل افتكر القديس سمعان اللى نقل الجبل ده ومالوش كنيسة باسمه».. فوافق البابا وتم ترسيمه بإسم أبونا سمعان ابراهيم موسى واستلم الكنيسة حتى يومنا هذا. لمسات بولندية الكنيسة الثالثة تحمل اسم مار مرقس تقع بالأسفل من قاعة تحمل أيضا اسم القديس سمعان الخراز ، ولم يكن لها سوى مدخل واحد شديد الانحدار،إلى أن تم ازالة 140ألف طن من الأحجار الضخمة. تزين قبة الكنيسة من الخارج لوحات فنية من قطع الفسيفساء ، تمثل أحداث الصلب و القيامة ، أما القاعة فتسع ألفى شخص ويميزها ذلك الصليب الضخم المنحوت فى عمود من الصخر. تتبقى بعد ذلك كنيسة باسم الانبا أبرام بن زرعة السريانى تخليدا لمعجزة نقل الجبل التى تمت فى عهده وكنيسة الأنبا شنودة وهي أول كنيسة يقابلها الزائر بعد دخوله إلي الدير. يشار إلى أن كل الأعمال الفنية المنحوتة فى الدير أنجزها فنان بولندى اسمه «ماريو». كان فى زيارة لمصر لكنه قرر الاستقرار بها وعرض أعماله على راعى الكنيسة، فلما أعجبته طلب منه أن ينحت مشاهد تحكى سيرة القديسين على الصخور لتكون بمثابة معرض مفتوح ، وبالفعل ملأ جنبات الدير بلوحات عديدة تحكى قصة ولادة المسيح وهروبه مع أم النور الى مصر وصلبه وقيامته بالاضافة إلى العديد من مشاهد وآيات الكتاب المقدس .