لم يلتفت كثير من الكتاب السياسيين إلى أن الانقلاب الشعبى على حكم الإخوان المسلمين الديكتاتورى -الذى وقع فى 30 يونيو وأيدته بجسارة القوات المسلحة المصرية- لم يكن فقط رفضا سياسيا وفكريا مطلقا لمشروع جماعة الإخوان المسلمين. ولكنه فى الواقع كان بداية حقيقية لاسترداد الدولة المصرية بثوابتها الراسخة وطابعها المدنى، وإنقاذ المجتمع من تبديد هويته الثقافية فى غمار مشروع أخونة الدولة وأسلمة المجتمع. بعد خريطة الطريق التى أعلنها «السيسى» فى 3 يوليو بدأت الخطوات الواثقة للدولة المستردة فى وضع دستور جديد، ثم فى تنظيم انتخابات رئاسية فاز فيها «السيسى» بمعدلات قياسية، وتبقى الخطوة الأخيرة وهى الانتخابات النيابية. والواقع أن الدولة لم تعد فقط فى 30 يونيو، ولكنها تجددت تجددا غير مسبوق لأنها أصبحت كما أكدنا- فى مقالنا المنشور فى الأهرام فى 27 أغسطس 2015 «دولة تنموية». بمعنى أن وظيفتها الرئيسية أصبحت هى التخطيط الدقيق للتنمية القومية، وتنفيذ السياسات الاقتصادية المختلفة لإشباع الحاجات الرئيسية للجماهير العريضة تحقيقا للعدالة الاجتماعية، وسعيا للقضاء على التخلف والانطلاق فى مضمار التقدم. وتجدد الدولة وتركيزها على التنمية كان جزءا أساسيا فى عملية إعادة صياغة النظام السياسى بعد 30 يونيو. وهذا النظام -والذى تعد الدولة هى قلبه النابض- يتضمن أطرافا سياسية أخرى بالغة الأهمية، وهى الأحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدنى والناشطون السياسيون والمثقفون. وإذا كانت الدولة قد تجددت جذريا بعد 30 يونيو إلا أن باقى أركان النظام السياسى لم تتجدد بعد. ولذلك دعونا الأحزاب السياسية لكى تتجدد وتصبح أحزابا تنموية مشاركة بفعالية فى عملية التنمية. وكذلك دعونا مؤسسات المجتمع المدنى للمشاركة فى مشاريع الدولة التنموية، بل والإسهام الفعال فى مراقبتها ومحاسبتها. يبقى أمامنا حتى تكتمل دائرة تجدد النظام السياسى بعد الدولة والأحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدنى التجدد المعرفى لكل من النخبة السياسية والنخبة الثقافية. ونحن فى هذا المجال فيما يتعلق بالنخبة السياسية المصرية- نصدر عن فرض أساسى مؤداه أن هذه النخبة بمختلف تنوعاتها الإيديولوجية والتى تمتد من اليمين إلى اليسار مرورا بالوسط لم تجدد معرفتها، وأنها غالبا ما تعيد إنتاج المقولات التقليدية للخطاب المؤسس لكل تيار أيديولوجى، سواء كان ذلك الخطاب الماركسى أو الخطاب الليبرالى أو الخطاب القومى أو الخطاب الإسلامى. ومرد ذلك إلى أن قادة هذه التيارات الإيديولوجية ظلوا متشبثين بالنموذج المعرفى الذى كان سائدا طوال القرن العشرين، ولم يدركوا إدراكا حقيقيا أن العالم تغير تغيرات جوهرية، وخصوصا بعد زحف عصر العولمة بأبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية على الفضاء العالمى، وتأثيراتها السلبية والإيجابية على أداء الدول، وتأثيرها الفعال على صياغة السياسات الداخلية والخارجية لها. وإذا كانت بعض العناصر المتنورة فى كل هذه التيارات قد أدركت جوانب التغير التى لحقت بالعالم إلا أنها فى الغالب الأعم- لم تستطع فهم منطق التغيرات ولا معرفة قوانينها الحاكمة، لأن ذلك يقتضى فى الواقع إطلاعا واسعا بالغ العمق على أبرز المؤلفات السياسية والاقتصادية والثقافية التى صدرت فى السنوات الماضية فى مجال الكشف عن القوانين الأساسية التى تحكم ظاهرة العولمة. وذلك ابتداء من الكتاب الأساسى الذى أصدره عالم الاجتماع الأمريكى «كاستلز» وعنوانه «عصر المعلومات» وهى ثلاثية تضم ثلاثة كتب هى «المجتمع الشبكى» و«ثورة الهوية» و«نهاية الألفية»، إلى كتاب الاقتصادى الفرنسى الشاب «توماس يكتى» الذى صدر فى العام الماضى وعنوانه «رأس المال». وإذا كان كتاب «كاستلز» قد كشف عن القوانين الأساسية للعالم الافتراضى وهو ما شرحناه بالتفصيل فى كتابنا «شبكة الحضارة المعرفية: من المجتمع الواقعى إلى العالم الافتراضى» (القاهرة: ميريت 2009) فإن كتاب «توماس يكتى» كشف عن القوانين الأساسية للاقتصاد الرأسمالى فى عصر العولمة، والتى تتمثل فى أن عوائد رأس المال ستزيد على معدلات الدخل القومى فى الدول الرأسمالية المتقدمة، كما أن ذلك سيؤدى إلى نهاية الديمقراطية وتحولها إلى «الأوليجاركية» أو حكم القلة. ماذا تعرف النخب السياسية المصرية سواء منها التقليدية ممثلة فى رؤساء وزعماء الأحزاب السياسية القديمة أو الشباب ممثلة فى النشطاء السياسيين عن القوانين التى تحكم العالم الآن فى عصر العولمة؟ فى تقديرنا أنهم لا يعرفون كثيرا، وأنهم يعتمدون على انطباعات سطحية، وتعميمات مرسلة ليس لها أى أساس. ومن هنا الأهمية القصوى للتجدد المعرفى للنخب السياسية تقليدية كانت أو حديثة، لأن دورها رئيسى فى الدولة التنموية الجديدة، وذلك لأنها لو لم تتجدد ستصبح عائقا خطيرا أمام التقدم التنموى والاستقرار السياسى. ويصبح السؤال هنا هل هناك خريطة معرفية جاهزة تسمح لأعضاء هذه النخب بالتعرف الدقيق على الملامح الرئيسية لعصر العولمة؟. والإجابة فى ضوء كتبنا المنشورة- نعم. فقد أصدرت عام 2008 كتابا بعنوان «الخريطة المعرفية للمجتمع العالمى» (القاهرة: نهضة مصر) عرضت فيه أبعاد الثورة الكونية المثلثة الجوانب وهى الثورة السياسية والثورة القيمية والثورة المعرفية التى تفسر لماذا وكيف تغير العالم. وكذلك رصدنا التغيرات الأساسية فى بنية المجتمع العالمى، وقدمنا خريطة معرفية للعولمة، وفصلنا فى أبعاد ثورة المعلوماتية، وتحدثنا عن تحديات الثقافة العالمية، وختمنا الكتاب بدراسة شاملة عن تجديد النظام الثقافى العربى. وقد واصلنا البحث بعد ذلك ونشرنا كتابا عنوانه «شبكة الحضارة المعرفية: من المجتمع الواقعى إلى العالم الافتراضى» (القاهرة: ميريت، 2009) عرضت فيه لنظريتى المتكاملة عن تحولات النظام العالمى والتى تتكون من أربعة أقسام. القسم الأول يتعقب التطور من المجتمع الصناعى إلى مجتمع المعلومات العالمى استنادا إلى أوثق المراجع العلمية فى هذا الصدد، وأبرزها كتاب «كارل ولانى» «التحول العظيم» والذى هو الكتاب العمدة فى تأصيل مفهوم «السوق» والذى هو عماد المجتمع الصناعى، والثانى هو كتاب «كاستلز» الذى سبق أن أشرنا إليه باعتباره المرجع العالمى فى تفسير قواعد الفضاء المعلوماتى. أما القسم الثانى فقد خصصناه للتحليل الثقافى المتعمق لعملية التحول من مشروع الحداثة الأوروبى إلى مشروع العولمة العالمى فى ضوء حركة فلسفية هى حركة «ما بعد الحداثة». وقد انتقلنا فى القسم الثالث إلى التحليل السوسيولوجى الذى يتعلق بتحول المجتمعات من «الأمن النسبى إلى مجتمع المخاطر العالمى» وهو المفهوم الأساسى الذى صاغه عالم الاجتماع الألمانى «إيرليش بيك» «مجتمع المخاطر» والذى يتمثل فى المجتمع الذى تزداد فيه الفجوة الطبقية، وتزيد فيه معدلات بطالة الشباب. وفى القسم الرابع والأخير تناولنا التغيرات الكبرى فى مجال سقوط النموذج القديم «للأمن القومى وصعود نموذج جديد هو الأمن القومى المعلوماتى». وأختم مقالتى بعبارة واحدة «حان وقت التجدد المعرفى للنخبة». لمزيد من مقالات السيد يسين