خطوات سريعة ..متلاحقة.. مباغتة.. غير متوقعة، أكد الرئيس فلاديمير بوتين من خلالها قدراته المتميزة كقائد سياسى وعسكرى لم ينس ما خبَرَه خلال سنوات عمله فى واحد من اخطر اجهزة المخابرات فى العالم.وكان بوتين استبق عملياته العسكرية الجسورة ضد «داعش» وغيرها من التنظيمات الارهابية، بالاعلان عن تأسيس مركز معلوماتى ضم اليه سوريا والعراق وايران ، سرعان ما تلاه بخطاب نارى فى الاممالمتحدة اعلن فيه انتهاء عالم القطب الواحد، فيما اعقبه بلقاء مع نظيره الامريكى باراك اوباما اطلعه خلاله على ثوابت الموقف الروسى تجاه مختلف القضايا الاقليمية والدولية مؤكدا حرصه وتمسكه بالشرعية الدولية. ولعل المتابع لخطوات الرئيس الروسى منذ إلقائه لخطابه فى مؤتمر الامن والتعاون الاوروبى فى ميونيخ فى فبراير 2007 الذى اعلن فيه رفضه لعالم القطب الواحد، يستطيع تبين ملامح سياساته وتوجهاته نحو العمل على طريق مجابهة ورفض هيمنة قوة بعينها وانتهاكها للشرعية الدولية خصما من حقوق ومصالح الاخرين، وهو ما عاد لاحقا ووضع اسس استراتيجيته فى «العقيدة العسكرية الروسية» التى اقرها فى صياغتها الجديدة مع نهاية العام الماضى بما تتضمنه من بنود تسمح باستخدام قواته الضاربة بما فيها النووية خارج حدود الدولة الروسية. وها هو يسير حثيثا صوب الهدف المرجو بعد ان طفح الكيل على ما يبدو. فما ان حاول خصومه احكام الطوق حول بلاده فى اعقاب اندلاع الازمة الاوكرانية، حتى نفض عن كاهله رداء الدبلوماسية، ليتحول صوب اتخاذ ما يراه من خطوات عملية حرص على ان تتشح برداء الشرعية الدولية، بما فى ذلك ما اتخذه من قرارات ومواقف قبل وبعد اعلانه عن قبول انضمام القرم، والاعتماد على الكيانات المتعددة الاطراف ومنها «شنغهاي» و«بريكس» للخروج من ربقة العقوبات والتبعية التقنية للغرب. ذهب بوتين الى الاممالمتحدة وألقى خطابه النارى الذى كرَسه لانتقاد سياسات خصمه الرئيسى الذى لم يكف منذ انتهاء الحرب الباردة عن محاولات فرض الهيمنة وتكريس تبعية الآخرين، دون ان يشير الى اسم «الولاياتالمتحدة» بكلمة واحدة. ولم يمض من الوقت سوى دقائق معدودات، حتى عاد والتقى نظيره او «غريمه» الامريكى ليواجهه بثوابت السياسة الروسية ويطلعه على بعض تصوراته ومخططاته ويعلنه بضرورة العمل معا ضد الارهاب، اذا كان الاخير صادقا بالفعل فيما يقوله حول رغبته فى ذلك، متناسيا حقيقة انه يظل الداعم الحقيقى للارهاب والمصدر الاساسى لتمويله. ولعل بوتين اعاد على اسماع نظيره بعضا من الماضى الذى كان شهد ابعاد التعاون بين موسكووالولاياتالمتحدة يوم داهمها الارهاب فى عقر دارها فى 11 سبتمبر 2001 ليتوجه رئيسها وكان جورج بوش الابن يطلب عون موسكو لمساعدته وتقديم الدعم الذى لم يبخل به بوتين فى حينه. وكان بوتين سمح آنذاك بفتح سماء بلاده امام الطائرات الامريكية للعبور الى افغانستان، ولم يعترض على طلب افتتاح قواعد عسكرية امريكية مؤقتة فى قيرغيزستان واوزبكستان، لكنه وفى المقابل طالب الادارة الامريكية بالتوقف عن تغذية الارهاب فى بلاده ليتفرغ لاحقا الى تصفية بؤر الحركات الانفصالية والحركات الارهابية فى الشيشان وشمال القوقاز . ولم يكن العالم قد استوعب بعد ما اودعه بوتين خطابه فى الاممالمتحدة حتى عاد «الزعيم» الى موسكو ليصدر امره بانطلاق مقاتلاته وقاذفاته لتدك معاقل الارهابيين على مختلف صنوفهم، بما يمكن معه ان يكون بداية حقيقية لاحدى اهم مراحل الصراع الدولي، مؤكدا فى الوقت نفسه مراعاته للشرعية الدولية وميثاق الاممالمتحدة. ولذا فقد كان من الطبيعى ان تتوالى البيانات الصادرة عن الكرملين تقول أن المواقع التى تقصفها القوات الجوية الروسية ضد تنظيم «داعش» وغيره من التنظيمات الارهابية يجرى التنسيق بشأنها مع القوات السورية، وان العمليات التى تقوم بها ، تأتى دعما للعملية الهجومية لهذه القوات، ولا علاقة لها بقصف مدنيين او فصائل معارضة. وكانت موسكو الرسمية انتقدت البيانات التى تعجل البنتاجون اصدارها حول قصف القاذفات الروسية لمواقع مدنية فى سوريا ومقتل واصابة العشرات من المدنيين . وناشد سيرجى لافروف» وزير الخارجية الروسية الاوساط الصحفية عدم الاستماع الى تصريحات البنتاجون بشان الضربات الروسية الجوية والاستماع الى بيانات وزارة الدفاع الروسية التى كشفت عن كل شىء». وكان لافروف عاد فى مؤتمره الصحفى الذى عقده فى نيويورك فى ختام مباحثاته مع نظيره الامريكى جون كيرى الى تأكيد أن الضربات الجوية الروسية فى سوريا لا تستهدف سوى «داعش» وغيره من التنظيمات الإرهابية، مرجحا فتح قنوات تنسيق مع العسكريين الأمريكيين فى أقرب وقت وهو ما حدث بالفعل. وذكر لافروف أن هناك تغيرا فى المواقف الأمريكية بشأن رحيل الأسد، مشيرا إلى أن خروجه من الساحة السياسية فى هذه الظروف أمر غير واقعي، فيما عاد الى تأكيد ضرورة جلوس جميع الأطراف السورية الى مائدة الحوار من دون استثناء، مضيفا أن بعض هذه الأطراف تطرح شروطا إضافية لحل الأزمة بضغط خارجى، وأن موسكو تود أن تصبح سوريا دولة مدنية آمنة تضم جميع مكونات المجتمع. وكان وليد المعلم وزير الخارجية السورية قال بعد لقائه مع لافروف ان موسكو نسقت كل خطواتها ضد داعش مع الحكومة السورية. ولكم كان الرئيس بوتين لاذعا حين سخر من الانباء التى روجتها بعض المصادر العربية والاوساط الغربية حول ان الطائرات الروسية تقصف المدنيين ومواقع المعارضة، بقوله «انهم يزعمون ذلك ولم تكن المقاتلات والقاذفات الروسية انطلقت من مواقعها بعد». وكانت الاجهزة الرسمية الروسية ركزت اهتمامها على ما قاله الرئيس فلاديمير بوتين فى اجتماعه الطارئ مع اعضاء حكومته حول ان تنظيم «داعش» الارهابى اعلن عداءه لروسيا منذ فترة طويلة، وأن الطريق الوحيد الصحيح لمكافحة الإرهاب الدولي، هو العمل وقائيا واستباقيا ومجابهة وتدمير المسلحين والإرهابيين على الأراضى التى استولوا عليها وعدم الانتظار حتى «يأتوا إلى بيوتنا» فيما اعاد الى الاذهان ما فعلته عصابات الإرهابيين الدوليين فى سوريا والبلدان المجاورة لها. وكان بوتين اعاد ما قاله فى الاممالمتحدة حول انضمام الالوف من مواطنى الدول الأوروبية وروسيا ودول الاتحاد السوفيتى السابق الى صفوف «داعش» وأنه «لا حاجة للمرء أن يكون خبيرا فى المسائل الأمنية ليعرف أنه فى حال حقق هؤلاء انتصارا فى سوريا فحتما سيعودون إلى دولهم وسيعودون إلى روسيا أيضا». وذكر بوتين أن الدول التى تباشر توجيه الضربات فى سوريا ضد المنظمات الإرهابية لا تملك لا القرارات من مجلس الأمن ولا الطلب من الدولة، مؤكدا أنه وعلى الرغم من ذلك سيكون من الممكن والصائب توحيد جهود جميع الدول ذات الشأن فى الحرب ضد الإرهاب الدولى بالارتكاز على ميثاق الأممالمتحدة.وكشف بوتين عن أن موسكو أبلغت جميع شركائها الدوليين عن خطتها وخطواتها فى سوريا. واضاف قوله : أقترح فى المرحلة الأولى على الدول ذات الشأن وقبل كل شيء دول المنطقة أن تنضم إلى عمل مركز بغداد المعلوماتى لمكافحة داعش موضحا أنه تم إبلاغ شركاء روسيا بإجراءاتها ومخططاتها على الجبهة السورية، وأن مشاركة موسكو فى العملية العسكرية ضد الإرهاب تتناسب والطلب الرسمى المقدم من الرئيس السوري. وقال بوتين إن للأزمة السورية جذورا عميقة وأسبابا مختلفة، منها سياسية داخلية ودولية ودينية وطائفية، تفاقمت نتيجة التدخل الخارجى الصارخ فى شئون المنطقة. وتحول بوتين الى تهدئة روع مواطنيه وخصومه على حد سواء بقوله: «نحن بالطبع لا ننوى أن تغرس رأسنا فى النزاع السوري. وسننفذ خطواتنا فى الأطر المحددة بدقة. أولا سندعم الجيش السورى فقط فى كفاحه الشرعى للتنظيمات الإرهابية تحديدا. ثانيا سيكون هذا الدعم جويا فقط دون مشاركة فى عمليات برية» وتابع: «ثالثا، مثل هذا الدعم سيقتصر من ناحية الزمن على فترة قيام الجيش السورى بإجراء عمليات هجومية». وترك الرئيس الروسى الباب مفتوحا امام مختلف التأويلات حول التسوية النهائية وموعد رحيل الاسد بقوله: «ان روسيا تنطلق من أن التسوية النهائية والطويلة الأمد للأوضاع فى سوريا ممكنة فقط على قاعدة الإصلاحات السياسية والحوار بين جميع القوى السلمية هناك. وأعلم أن الأسد يفهم هذا وهو جاهز لهذه العملية ونعول على موقفه الفعال والمرن وعلى جاهزيته لتقديم حلول وسط فى سبيل دولته وسبيل شعبه». ومن اللافت ان روسيا كانت استبقت خطواتها الاخيرة بسلسلة من الاجراءات لعل اهمها حشد جهود البلدان التى ترتبط معها بمصالح مشتركة مثل سوريا وايران والعراق ومواصلة محاولات اقناع الاخرين فى المنطقة مثل السعودية وتركيا والاردن للانضمام الى الجبهة المعادية للارهاب. وكان لافروف انتقد ايضا المزاعم التى تقول باستهداف القوات الجوية الروسية لمواقع غير تابعة ل «داعش» مؤكدا أن روسيا تستهدف فى سوريا «جبهة النصرة» و«الدولة الإسلامية» وغيرها من التنظيمات الإرهابية. وأكد لافروف أن الجيش الحر، الذى تدعى واشنطن أنها تدعمه ليس تنظيما إرهابيا، بل نعتبر أنه يجب أن يكون جزءا من العملية السياسية، وهذا ضرورى لتأمين المفاوضات للتسوية السياسية فيما وصف التأكيدات التى تقول بأن العملية الروسية فى سوريا تأتى فى سياق محاولة لصرف الانظار عن أوكرانيا بأنها «عبثية».