الهند, ليست بلدا مثل البلاد الأخري. لكنها أرض الحضارة والفلسفة, وعبق التاريخ. والهند, حقا, أرض العجائب, والتناقضات, وتنوع الديانات, والثقافات. لا تحتاج الهند, الا زيارة واحدة, حتي تسحرنا, وتحيرنا. مرة واحدة, إلي الهند, كافية لأن تبقي الي الأبد في الذاكرة. ..................................................................... كان يطلق علي الهند جوهرة التاج البريطاني, والهند في حياتي جوهرة من جواهر ذكرياتي فقد كانت الهند هي أول رحلاتي خارج الوطن وكانت الخطوط الجوية الهندية, أول خطوط تحملني عبر الهواء. وكانت زيارة التاج محل في ولاية أجرا, حدثا استثنائيا, في حياتي سحرتني تلك التحفة المعمارية المتفردة, وأبقت جزءا من قلبي, هناك علي عتباتها الرخامية ناصعة البياض. حضرت احتفالات الشعب الهندي بيوم الاستقلال,15 أغسطس.1947 رأيت كيف يعبرالنساء, والرجال, في الهند, علي اختلاف عقائدهم, ولغاتهم, ودياناتهم وطوائفهم, عن فرحة شعبية غامرة, ترسخ توحدهم, وتعمق من انتمائهم الي الهند. وتعيد الي الأذهان كفاحا عريقا, له خصوصية, تزهو بها الهند, وتحملها عبر الأجيال. رأيت, كيف في يوم الاستقلال, يطل الزعيم غاندي2 أكتوبر301869 يناير1948- من قلوب الشعب الهندي, شامخا كواحد من أعظم زعماء التاريخ. والمناضل الذي أشعل الكفاح ضد الامبراطورية البريطانية, حتي الجلاء, والاستقلال. لم يكن غاندي, مجرد زعيم أعاد الحس القومي, وأشعل المقاومة الشعبية السلمية, وجدد كرامة الانتماء, الي الوطن. لكنه تحول, الي ما يشبه التعويذة, التي تتلوها الهند, لكي تستلهم القوة, علي الاستمرار, مرفوعة الرأس, في الحاضر, والمستقبل. بالطبع, أنا منحازة إليغاندي لأنه بحكمته العميقة, وسمو روحه, ورحابة انسانيته, حررني أنا الأخري, من حماقات العالم, وأنانية الذات, واغراءات الحياة الفانية. اذا حضرت الهند, حضر غاندي. واذا حضر غاندي حضرت الهند. هكذا نجح غاندي في أن يخلق الترادف بينه وبين الهند. لكنه كان ترادفا, واعيا, غير متعصب, واقعيا. فعندما سئل غاندي, أيهما يفضل, الهند, أم الحق قال الهند والحق, عندي مترادفان. لكنني اذا خيرت بينهما, أختار الحق. دعونا نطل, علي حياة هذا الرجل الفريد, المتفرد.. المهاتما غاندي, الذي بهر العالم, بحكمته, وأدبه, وأحبه الأعداء, قبل الأصدقاء. وأنجز المهمة المستحيلة, وهي اخراج الانجليز من الهند. المهاتما, تعني الروح العظيم. ويشاء القدر, أن تغتاله رصاصة هندية متعصبة, في30 يناير1948, بعد الاستقلال, بأقل من سنة وهو الذي كافح طوال حياته, ضد التعصب الديني, والتفرقة بين الناس, علي أساس الديانات, والملل, والطوائف. مع غاندي, تتجدد دائما دهشتي. هذا الر جل البسيط, بساطة البديهيات, نحيل الجسم, نصف العاري, وتساعده عصا في المشي, لا يملك سلاحا, الا ايمانه, بالهند, ونبذ العنف. هذا الرجل هادئ الحركات, رقيق الصوت, في قلبه, التسامح, والمحبة, والسلام, كان الخطر الأكبر, علي امبراطورية, عتيدة, مكابرة, متآمرة, تملك والمال, والنفوذ, والأسلحة, والجيوش, وخبرات الاحتلال, والقمع, والتعذيب. وكأن الشعب الهندي, كان في انتظار, الزعيم الذي يلهمه, ويثق في قدراته, ويراهن علي وطنية مسالمة, وثورة لا تريق الدماء, لا تنزاع كرامته, واستقلاله, وحقه الطبيعي, في الحرية, وتقرير المصير. جاء غاندي, منأسرة عرفت بتدينها الصارم. لكنه في كفاحه, ضد الاحتلال وضد الفقر, كان يردد: اذا أراد الله أن يؤمن به الناس, في الهند فليظهر كرغيف من الخبز. كانت الهند بلدا مقسما بين سبع ديانات, متفرقا بين إحدي وعشرين ولاية. يصل عدد الناس الي ما يقرب من خمسمائة وخمسين مليون شخص, يتكلمون ما يقارب من خمس عشرة لغة رسمية. ماذا يفعل المهاتما الروح العظيم؟. أدرك غاندي أن بداية تحرير الهند, هي تحرير الهنود أنفسهم, من التفرقة الدينية, والاجتماعية, والطائفية المتعصبة. من المعروف أن الديانة الهندوكية, تقسم المجتمع الهندي إلي نظام صارم من الطوائف. علي القمة طائفة البراهما.. والبراهما هو إله الخلق والكون. لذلك فهي طبقة عليا, يمثلها القائمون علي الدين والفكر. ثم نجد في القاع طائفة التشودرا, حيث أصحاب المهن اليدوية المختلفة, وأصحاب الحرف العديدة. من هذه الطائفة في القاع, نشأت فئة المنبوذين, التي تقوم بأحط الأعمال, في نظر المجتمع الهندي, مثل جمع القمامة, ولم جلود الحيوانات الميتة وذبحها. وقد انعزل المنبوذون في مكان مخصص لهم. لا يشربون إلا من بئر خاص.. ولا يلمسون الآخرين, ويتم استغلالهم في جميع الانتهاكات المستباحة. طبقا لنظام الطوائف لا يتم التزاوج بين طائفتين مختلفتين ولا يحق لإنسان تغيير طائفته إلي أن يموت. ثار غاندي علي هذا الموروث الديني الهندوكي. وقام بتزويج رجل وامرأة ينتمي كل منهما, الي طائفتين مختلفتين. بل من أكثر الطوائف بعدا, طائفة البراهما قمة المجتمع وطائفة المنبوذين قاع المجتمع. وكانت هذه حادثة, لم تشهدها الديانة الهندوكية, علي طوال تاريخها. أطلق غاندي علي المنبوذين اسم هاريجان, أي أطفال الله. تسائل غاندي: كيف نعترض علي معاملة بريطانيا, لنا علي أننا منبوذون, ونحن نعامل أهلنا المعاملة نفسها؟ في عصر غاندي, كان المنبوذون, يشكلون20% من اجمالي الشعب الهندي. إن الكتابة عن غاندي تشبه الغوص في محيط عميق.. لا نعرف أين يبدأ ولا نهاية له. كتب غاندي حياتي هي رسالتي وقد توحدت حياته, ورسالته, في قضية واحدة, هي تحرير الهند, عاش من أجلها, وأغتيل ب سببها. لقد اعتقل غاندي عدة مرات. وأضرب عن الأكل, مرات كثيرة. لكن المرة الشهيرة, حين يئس الهنود من فلسفته, عن اللاعنف, قاموا بفتح النار علي الجنود. أضرب عن الأكل, حتي كاد أن يموت.فقد آمن غاندي, أن اللاعنف سياسة القوي المتحضر, المؤمن بقضيته. أما سياسة العنف, فهي تعبر عن التوحش, والعجز, والسلبية. قال غاندي: سوف نخرج الإنجليز من الهند بكامل اختيارهم واقتناعهم.. ولن يحدث ذلك إلا بالتمسك باللاعنف, الذي هو قمة الثورة. وسوف يحب الإنجليز خروجهم من الهند ويعتبرونه قمة الحكمة. وهناك مرة أخري, كان إضرابه عن الطعام طويلا, لحدوث فتنة طائفية. وكان هذا أصعب ما يخشاه. ولم ينه إضرابه, حتي تصالح المتعصبون دينيا, واستمعوا إلي حكمة غاندي: هذا مايريده الإنجليز.. أن نقتل بعضنا البعض, حسب ديانتنا.. أكثر ما يبهرني في سيرة غاندي, ما سمي ب مسيرة الملح في12 مارس1930. في ذلك اليوم, خرج غاندي من مدينته أحمد أباد, في ولاية غوجارت, سائرا علي القدمين إلي قرية داندي, في مقاطعة سوارت وقد قطع عهدا, ألا يعود إلا بعد تحرير الهند. بدأ السير مع تسعة وسبعين من أتباعه. وحين وصل إلي محيط العرب في سوارت, كان قد مشي يوما كاملا, قاطعا خمسمائة كيلو متر.وعلي طول الطريق, تحول الجمع الصغير المؤمن باللاعنف, أو العصيان المدني, إلي الآلاف من الهنود في المدن وفي القري, احتجاجا علي احتلال بريطانيا. عند الشاطيء توقف غاندي وتوقف معه الزحف الهندي الضخم. توجه إلي تلال الملح القريبة. رفع بعض الملح, إلي أعلي, ثم تركه يتساقط, مصاحبا بالهتافات الرعدية. فقد فهم آلاف الهنود رسالة غاندي من هذه الحركة البسيطة. إنه احتجاج غاضب, ضد احتكار الإدارة الإنجليزية للملح, وفرضها ضرائب باهظة علي تداوله. لكن لماذا الملح؟ أدرك غاندي أنه أفضل توحيد للخمسمائة وخمسين مليونا من الهنود. فأفقر الفقراء, الذي لا يتناول إلا قطعة من الخبز, يحتاج إلي بعض من الملح. وليس هناك جسم يستطيع الاستغناء, عن الملح. ولهذا أطلق هذا الزحف التاريخي: نمك ساتياجراها.. نمك يعني ملح.. ساتياجراها تعني, الإصرار علي الحقيقة دون عنف. وكان غاندي محقا.. فالملح تاريخيا كان سلعة ثمينة. وكان في بعض البلاد, يستبدل به الذهب. وفي الصين, اعتادوا علي استخدام عملات مصنوعة من الملح. وفي عدة دول كما حدث في الهند, فرضت عليه ضرائب باهظة, وتم احتكاره لصالح الملوك, والأمراء. ولم يتم إلغاء احتكار الملح, إلا بعد بثورات الشعوب. أو ما أطلق عليها, ثورات الملح. وقد نجح غاندي بسياسة اللاعنف, في إحياء الصناعات القديمة, والحرف التقليدية الهندية, والعودة إلي النول اليدوي للغزل. فقد أدرك أن الاستقلال السياسي للهند, لن يتحقق طالما أن الهند تصدر إنتاجها الزراعي كمادة خام, ثم تشتري المنتجات الإنجليزية الجاهزة. ولهذا دعا الهنود إلي الامتناع عن استخدام الأقمشة الإنجليزية. وهكذا أصبح النول اليدوي رمزا للتحرر, وأداة ثورية, لها معناها السياسي, والاقتصادي. وأصبحت بريطانيا, مؤرقة بمصيرها في الهند. وكان جنودها, يندهشون كل يوم, وهم يرون الملايين, يسلمون أنفسهم, دون مقاومة, دون عنف, لكنهم لا يشترون الأقمشة, والبضائع, الانجليزية. يوم30 يناير1948 اغتيل غاندي المناضل, أو الفيلسوف, الذي ضل طريقه إلي السياسة. في ذلك اليوم, كان غاندي, في نيودلهي, في حديقة, بيت بيرلا يصلي مع آلاف المصلين, وبعد استقلال الهند, بأقل من سنة في15 أغسطس1947, أصابته رصاصة من أحد الهندوس المتعصبين دينيا. دعابات غاندي عرف عن غاندي, الكثير من الدعابات الساخرة, التي تفضح الكذب, والظلم, والقبح. دعابة شهيرة, حين دعي لحفل استقبال في قصر الإمبراطورية البريطانية. وذهب كما هو, يرتدي الثوب الأبيض, الذي يكشف جسمه النحيل, أكثر مما يستره. سأله أحد المدعوين الإنجليز باستنكار: أهذه ملابس تناسب لقاء الملك؟. بابتسامة هادئة ودودة, رد غاندي: اطمئن يا صديقي فالملك يرتدي من الملابس ما يكفيني ويكفيك ويكفي كل المدعوين. أعطي غاندي, النموذج لصدق الزعامة. فكانت حياته أبسط من البساطة.. متقشفة أكثر من حياة أفقر الفقراء في الهند. فلم يملك من هذه الدنيا الفانية إلا كوخا صغيرا بسيطا هو الذي صنعه بنفسه علي نهر السابارماتي يتغذي علي لبن المعزة التي تنطلق بجانب الكوخ. ويكمل الوجبة بقليل من الأرز والليمون, والتمر لا يشرب الكحوليات, أو الشاي, أو القهوة.. لا يقتني إلا ثوبا أبيض من القطن الهندي ونظارته الشهيرة.. صندلا.. مكتبا بسيطا.. دواية حبر.. ريشة.. إناءين من الفخار.. طبقا من المعدن.. ثلاث ملاعق بأحجام مختلفة.. سكينا.. نولا يدويا.. العصا التي تساعده علي المشي والحركة.. وردة حمراء فيكوب ماء. سألتهم في الهند, خلال رحلتي, لماذا كل هذا التقشف؟ أجابت امرأة أسمت ابنها: غاندي, كان متقشفا مع النساء فلم يتزوج غير زوجته وكان متقشفا نحو متع الدنيا, التي يتقاتل الناس من أجلها. خير ختام, ما أعتبره درسا, للزعماء, والحكام, في كل مكان.. قال غاندي: الفقر موجود لأننا نأخذ أكثر من حاجتنا, لا أستطيع أن أكافح الفقر في وطن, غالبيته لا يجد قوت يومه, ولا أجرؤ علي إلقاء خطبة, عن القيم النبيلة وعن العدالة, وعدم التفرقة والمساواة, بينما أعيش حياة الأثرياء, في بلد به ملايين من الفقراء. في14 مارس2015, في لندن, في ميدان البرلمان, ازيح الستار عن تمثال غاندي. وهذا التاريخ, يوافق مائة عام, حينما عاد غاندي, إلي الهند, من جنوب أفريقيا للتفرغ للنضال لتحرير بلاده. وكان حينئذ يبلغ من العمر46 عاما. يا للمفارقة. تمثال غاندي, يرتفع شامخا, في قلب لندن, في عقر دار الإمبراطورية العتيدة, التي طاردت غاندي, واعتقلته سنوات, أكثر من مرة. يا للمفارقة ذهب الجميع, أصحاب الامتيازات, والمراكز المرموقة, وترسانة الأسلحة, الذين كانوا يركبون الخيل, ويضربون الشعب الهندي, بالرصاص, والعصا, والكرابيج. لم يبق الا غاندي, والهند. لكن من يتعظ ؟ ومن يتعلم ؟ ومن يتواضع ؟ ومن يضحي ؟ ومن يصمد ؟ أتأمل هذا العالم الأحمق, القاسي, الجشع, المتوحش, التعيس, المغرور, الشرس, العنيف, الذي يلف, ويدور, بأوامر من ماكينات سفك الدماء. قلة همجية, بربرية, متنمرة, تملك الفلوس, والثروات, والأسلحة, والإعلام, والثقافة, والتعليم, والأديان تعيش علي اثارة الفتن, وسرقة الضعفاء, ودم الأبرياء, وصناعة الأكاذيب. كم نحتاج إلي عشرات من غاندي, لكي يصبح العالم, أكثر انسانية, وعدلا, وسلاما, وحكمة, وتواضعا.
من أقواله دعوني أذكر بعضا من مقولات غاندي, التي أشعلت الثورة في قلوب الملايين. وساعدتني أنا للوصول الي المزيد من الحكمة, والتواضع, والسمو الروحي:- لا تستطيع أن تساعد الناس حقا إلا إذا عشت مثلهم.. ساعد الناس علي أن يفعلوا الأشياء بأنفسهم وأن يكتشفوا إمكانياتهم.. لا تحل محلهم. - السعادة هي أن يتناغم ما تقول مع ما تفعل مع ما تحلم به. - لو لم أمتلك القدرة علي المرح وعلي السخرية لهزمتني أول معركة. - أيها الهنود.. أنا إنسان مثلكم.. لا تعاملوني كإله, أو إنسان لديه قدرات خارقة.. ولا تحولوني إلي تعويذة تجلب لكم الحظ السعيد.. حظكم هو فعلكم. - لا آومن بأي فكرة دينية تناقض عقلي وتفكيري,المنحاز للعدل والحكمة والحرية. - كم يسعدني الاعتقال, حتي يتأكد الهنود| أنني إنسان عادي مثلهم. - لست أطلق علي بريطانيا كلمة العدو لكنني أعتبرها صديقة ضلت طريق الحكمة. - الجسد ليس وعاء للطعام والشراب والمتع الحسية.. لكنه أداة ثورية.. ورمز للاحتجاج ووسيلة لإعلان الغضب.. لذلك فأنا بحياتي عشرات الإضرابات التي جعلت الموت صديقي. الذي يعفو أرقي من الذي ينتقم. السلام أرقي من الحرب. - نحن موجودون علي الأرض بسبب النساء.. فلا تسيئوا معاملتهن أيها الرجال. - الحقد يستنزف طاقتنا.. ويجعلنا عبيدا لغريزة شريرة.. همجية.. لا حق لنا في ممارستها. - اللاعنف سياستي.. والتواضع فلسفتي..والهند الحرة غايتي.. - لا تيأس من الحياة رغم مآسيها.. ففي النهاية لا يتسخ البحر لمجرد قطرات ملوثة من الماء. - في الهند هناك نوعان من العبودية.. عبودية النساء وعبودية المنبوذين.