بعد أن صدر كتابه الأول عام 1969 تحت عنوان « أوراق شاب عاش منذ ألف عام» والذي تضمن خمس قصص قصيرة كُتبت بعد نكسة 1967، دعاه المفكر محمود أمين العالم للعمل فى مؤسسة أخبار اليوم الصحفية، وبدأ يتردد على جبهة القتال في أثناء حرب الاستنزاف؛ ومن ثم أصبح علامة من علامات الصحافة المصرية، سواء أكان من خلال كتاباته الأدبية الراقية والتي تجلت في عشقه للأماكن والأضرحة أم من خلال المقالات الصحفية التي راقت لمن يقرأها . وقد استطاع بحسه المرهف أن يستنطق المكان ويجعل له رونقاً وحساً وبهاء، حيث جعله هوية من هوياته الشخصية كما كان الحال عند أستاذه نجيب محفوظ بحكم أن المكان تاريخ وفلسفة وهو أول ما يسعى المرء من أجله وآخر ما يتبقى منه، فيذهب البشر ويبقى الحجر شاهدا على ما سبق .... جاء كتاب « شعرية الفضاء الروائي عند جمال الغيطاني « للناقد الأدبي الدكتور عزوز علي إسماعيل في ثلاثة فصول بعد المقدمة والتمهيد؛ حيث اشتمل التمهيد على ثلاثة مباحث؛ المبحث الأول حول مفهوم الشعرية, معتمداً على بعض الآراء السابقة, سواء أكان في التراث النقدي القديم أم في الحديث, بعد أن ذكر مفهومها المعجمي, بحكم أنها تطورت وفق تطور مراحل الأدب, وبحكم دخولها في ملتقى علوم مختلفة؛ سواء أكان في الدراسات الأسلوبية والعلوم اللسانية أم في الدراسات التأويلية السردية وكيف أن التاريخ الكلي للشعرية ما هو إلا إعادة تفسير النص الأرسطي على اعتبار أن الأدب محاكاة, فكانت نظرية النظم عند عبدالقاهر الجَرجَاني بمثابة البداية التي تبحث عن قوانين يُحكم بها على العمل الأدبى من خلال التأويل باعتباره قانوناً لشعرية النظم، وتطرقت الدراسة إلى العصر الحديث لمعرفة النظرة الحديثة للشعرية عند كل من رومان جاكوبسون؛ حيث شعرية التماثل والتي استندت إلى المبدأ الشكلي في أن اللغة الشعرية ذاتية الغاية مقابل اللغة اليومية التي تحيل على موضوع يقع خارجها. وفي المبحث الثاني تطرقت الدراسة إلى نقطة جوهرية، من خلال تعريفها للفضاء الروائي، وهي ما استخلصته في النهاية من خلال ما دللت عليه بأن الفضاء له ظل ظليل،وأركان مختلفة, وامتدادات متعددة, تظهر في الحركة التأويلية وأن الحيز جزء منه, وقد توصلت إلى هذا من خلال عروجها على لفظة الفضاء بدءاً من المعنى المعجمي وتداول اللفظة في القرآن الكريم والحديث الشريف, ووصولاً إلى الشعر العربي وآراء المحدَثين, وطرحت سؤالاً ذا أهمية, يكمن في مَنْ يملك الفضاء الروائي؟ هل الأشخاص أم الأزمنة أم الروائي نفسه؟ وما العلاقة بين الفضاء والمكان؟ لتصل في نهاية المطاف إلى أن العلاقة بينهما هي علاقة الكل بالجزء, متخذة في طريقها التحليلَ والاستنباطَ وسيلتين للتوصل إلى تلك النتيجة, معارضة في الوقت نفسه ما ذكره الدكتور عبدالملك مرتاض, حين قال إن الحيز هو الفضاء الروائي, متخذاً أي الدكتور مرتاض من أراء الدكتور حميد لحمداني سبيلاً لإثبات ما يقوله, وفي النهاية تناولت الدراسة الحديث عن ظل الفضاء وفضاء الظل, وكيف أن المعنى والمتمثل في [القراءة والفهم] هو الركن الأول من أركان الظل الفضائي, أما الركن الثاني فهو الخيال والذي يضم [التصور والتأويل]. ثم كان المبحث الثالث وتحدثت فيه الناقد عزوز عن مفهوم شعرية الفضاء, بحكم أنها هي ذلك النسق المعماري الذي نستشف من خلاله إبداع الفنان وفن المبدع, وكيف أن شعرية الفضاء تختلف من رواية إلى أخرى. أما الفصل الأول فقد حمل عنوان « أصداء المكان» بدأه الناقد بمقدمة ذكر فيها أهم ما يميز كتابات جمال الغيطاني, والمتمثلة في عنصر الإحالة عنده, بالإضافة إلى الجانب الصوفي المتغلغل في شخصيته, فضلاً عن سمات أخرى ذكرها في تلك المقدمة, وأتبع ذلك الحديث عن أمكنة الأشياء وأصدائها؛ نحو النوافذ،الجدران، الأركان،الأسقف, الأقواس, البيت, المقهى، وأضفت لما سبق المدينة والظل الفضائي، فضلاً عن المكان المتحرك وحركة المكان من خلال تجربة القطار، وتحدث عن أبعاد المكان لديه. وجاء الفصل الثاني حاملاً عنوان «تعالقات الزمان بالمكان في دفاتر التدوين» ووقفت الدراسة فيه على بعض النقاط الأولية لذلك التعالق, موضحاً تاريخ الزمكانية, وكيف أن ميخائيل باختين أول من أطلق هذا المصطلح عام 1938 ومن الصعوبة بمكان الفصل بين الاثنين, وانصبت تلك التعالقات على الروايات الثلاثة المستخدمة في مجال الدراسة؛ « خُلسات الكرى, رشحات الحمراء, ودنا فتدلى « وتناولت الأنثى وتعالقات الزمان بالمكان, فضلاً عن الأصوات مع الوصف والسرد, من خلال التجربة الصوفية الرائدة عند جمال الغيطاني, والتي تجلت في معظم كتاباته. وأخيراً جاء الفصل الثالث تحت عنوان الخطاب الروائي في دفاتر التدوين, تناولت الدراسة فيه تاريخ الخطاب في التقديم النظري, معتمدةً على الأراء السابقة في بعض الرؤى, سواء أكان عند جيرار جينت أم عند هاريس من خلال تعريف الخطاب, فضلاً عن بلومفيلد وبنفنست, وعرَّفَ الناقد الخطاب في المفهوم السردي, متناولاً المروي له ووظائفه, والعلاقة بين السرد والحوار, وكذا السيرةَ الذاتية والخطاب الروائي ومكوناته, وقد تحدث عن جزئية مهمة وهي الفضاء باعتباره عنصراً من عناصر الخطاب الروائي, وبعدها تناول الباحث تحليل عناصر الخطاب في الروايات الثلاثة، الزمن والصيغة والصوت السردي, وقد عبر الأستاذ جمال الغيطاني من خلال ذلك الخطاب عن حبه الدفين للحضارة الإسلامية، وعراقة الحضارة الفرعونية؛ والتي كلما ابتعد عنها وجدها أمامه؛ سواء أكان في الشرق أم في الغرب؛ دامجاً فيه أي الخطاب الحس الصوفي الراقي, معرضاً للهوية العربية والتي ظل يتناولها في كل المحافل من خلال التاريخ المشرِّف للأمة العربية عبر قلمه الحاد الرصين, مع ذاكرة الضوء الحديدية, والتي لا مناص عنده من الخلاص منها؛ خوفاً من أن يمرق من جلدها, أو أن يصبأ عن جنسها؛ إنها ذاكرة الضوء المنبعث من حضارتين عريقتين، الفرعونية العتيقة والإسلامية النورانية. فالعمارة هي ذاكرة, وفلسفة, وسياسة, وتاريخ, تستمد سلطتها من البشر, وهي أهم ما ينتجه الإنسان, وآخر ما يتبقى منه. وهو في طريقه إلى هذا أراد أن يذكرنا بأن الحضارة الفارسية كانت العمود الفقري للحضارة الإسلامية؛ حيث عنون كل الدفاتر بلفظتي دفاتر التدوين وهما لفظتان مأخوذتان من أصل فارسي، وكأنه أراد تغليف الحضارة الإسلامية بالحضارة الفارسية وقد أوضحتُ ذلك في نهاية البحث تحت عنوان سيميولوجيا العنوان. وختم الناقد عزوز إسماعيل الدراسة ببعض النتائج التي مثلت نقلة كبيرة في النقد الأدبي في دراسة الرواية وكان منهجه فيها هو المنهج السردي المفعم بالتأويل، سواء أكان في الفصل الأول أم الثانى، وقد آثر استخدام المنهج السردي في دراسة شعرية الفضاء الروائي عند جمال الغيطاني، بحكم أنه أنسب المناهج النقدية في دراسة أديب مثل الغيطاني لما تميزت به كتاباته بالسرد المفعم بالخيال أحياناً وبالواقعية أحياناً أخرى؛ حيث إن السرد فعل يقوم به الراوي الذي ينتج القصَّ, وهو فعل حقيقي أو خيالي ثمرته الخطاب الروائي. وهو عملية إنتاج مثَّل فيها الغيطاني دور المنتج, مستخدماً فيها السرد اللاحى ،وهو السرد الشائع في الرواية، والذي يشير فيه الراوي إلى أنه يروي أحداثاً قد وقعت في الماضي, سواء أكان هذا الماضي بعيداً أم قريباً. أما الفصل الثالث فقد مالت الدراسة قليلاً نحو المنهج اللساني خاصة في ظل تناول الخطاب الروائي؛ لأن الخطاب الروائي متشعب الرؤى والامتدادات, وهو حلقة ربط بين علوم مختلفة في مجال النقد. ومن النتائج لهذا الكتاب الضخم إذا كان الفضاء الروائي, وما تمخضت عنه المفاهيم الأولى للدراسة, أعم وأوسع من الأماكن, وأن الأماكن هي التي تسبح بين طياته وهو ما أثبتته الدراسة فإن شعرية الظل الفضائي هي الامتداد المعنوي للخيال الروائي على صفحات الرواية, من خلال الأركان الأربعة لهذا الظل. وقد برهنت الدراسة على أن تلك الأركان قد تمثلت في المعنى بركنيه[ القراءة والفهم ], والخيال بركنيه [ التصور والتأويل ] ومن ثم تكتمل عناصر هذا الظل وتلوح في الأفق الشعرية التأويلية السردية, والتي أظهرت ذلك الظل الراقد خلف الفضاء من خلال يقظة المتلقي؛ وإذا كان الروائي في وصفه للمكان قد أخذ انعطافة, فإن الظل أيضاً سوف يكون فيه انعطافة تخيلية تأويلية؛ بحكم أنه لا يستقيم الظل والعود أعوج؛ ذلك أن الدارس أوالمطلع على تلك الفضاءات يعتبر بمثابة الشمس التي تنير له ذلك الظل, من خلال فعل القراءة, والذي تحدثت عنه كلٌ من سوزان روبين سليمان وإنجي كروسمان في كتابهما « القارئ في النص» , مقالات في الجمهور والتأويل. المكان عند الغيطاني ليس مفككاً أومضطرباً كما هى الحال عند مارسيل بروست, في روايته « بحثاً عن الزمن الضائع « والتي قام جيرار جينت بتحليلها, في خطاب الحكاية, بل إن مكانه مترابط له أيديولوجية في العمل الروائي وله أبعاده الفسيولوجية والجغرافية والتاريخية؛ لأنه يحكي نفسه وسيرته الذاتية, وقد ساهم هذا المكان في خلق المعنى داخل العمل الروائي, الأمر الذي أثّر بطبيعة الحال على شعرية التأويل, فكانت بمثابة المتتابع لحركية المكان؛ خاصة في دنا فتدلى, والتي تعتبر من الروايات النادرة؛ بحكم أنه جعل فيها المكان يتحرك وهو ما أوضحته شعرية الفضاء في الفصل الأول من خلال « حركة المكان والمكان المتحرك». الفضاء الروائي قد عُد إشكالاً , تتعرض له الدراسات المختلفة؛ بحكم أن المعنى الخاص به لا ينتجه الأديب فحسب, بل يشاركه فيه القارئ أو المتلقي؛ سواء أكان بالسلب أم بالإيجاب, ذلك أن القارئ أو المتلقي, ومن خلال ثقافته, يستطيع أن يستنبط دلالات أخرى للنص, قد يتعمد الروائي إخفاءها, وتظهر أكثر حينما يترك بعض الجزئيات الناقصة في الرواية ليقوم المتلقي بإكمالها, من خلال وعيه وحسه بما قرأه, وتظهر أكثر في الروايات التي تتعمد الغموض في تفاصيلها, ومن هنا يمكن أن نقول إن المتلقي يشارك المؤلف في العمل الروائي, وفي معرفة تأويل فضاءاته.