لم يَعُد مفهومُ الأمن مقصورًا على الأبعاد التقليدية؛ كالتهديدات المباشرة للحدود البرية والبحرية، أو التهديدات التي تفرضها الجماعات الإرهابية المسلحة التي تستهدف تفكيك بنية الدولة للسيطرة على الحكم. وإنما أصبح يشمل أبعادًا أخرى لها تأثيرات أمنية غير مباشرة، خاصةً التهديدات المتعلقة بتغيير البنية الديمغرافية والسكانية، وتزايد الضغوط على الموارد الاقتصادية والطبيعية، والضغط على البنية التحتية والخدمات العامة؛ وهى الأبعاد التي يُمكن أن تكرس حالةً مستمرة من عدم الاستقرار الأمني في الدولة.
واقع صعب ينذر بخطر كبير عندما تكشف إحصاءات المفوضية السامية لشئون اللاجئين حول العالم ان عدد اللاجئين وطالبي اللجوء والنازحين في العالم يقرب من 60 مليون شخص من مختلف دول ومناطق العالم بنهاية عام 2015 الخطر هنا فى ان هذا الرقم المفزع يزيد من الخلافات السياسية ويؤثر سلبيا على الناحيتين الامنية والاقتصادية فى الشرق الاوسط فعلى صعيد دول المنطقة- كما قرأت فى تقرير المركز الاقليمى للدراسات الاستراتيجية بالقاهرة - تأتي سوريا في المقدمة ب4,08 ملايين لاجئ خارجي، فضلا عن 7,6 ملايين نازح داخلي، ثم الصومال ب967,248 لاجي خارجي و1,1 مليون نازح داخلي، تليها السودان ب659,395 ألف لاجئ خارجي و3,1 ملايين نازح داخلي، ثم جنوب السودان ب622,728 ألف لاجئ خارجي و1,49 مليون نازح داخلي، ثم العراق ب369,904 ألف لاجئ خارجي و3,2 ملايين نازح داخلي في مختلف المحافظاتالعراقية، وتأتي بعدها مالي ب137,983 ألف لاجئ خارجي و61,600 ألف نازح داخليّ خاصة تجاه الجنوب، ثم ليبيا التي بلغ عدد لاجئيها في الخارج 4,194 لاجئ خارجي وما يقرب من 400 ألف نازح داخلي، وأخيرًا اليمن بما يقرب من 2628 لاجئ خارجي و334 ألف نازح داخلي.
فمن الناحية الامنية يحدث تغيير البنية الديموجرافية والتركيبة السكانية، مثلما حدث فى لبنان، بعد ارتفاع معدلات تدفق اللاجئين السورين إليها، والذين بلغ عددهم -وفقًا لتقديرات مفوضية الأممالمتحدة لشئون اللاجئين في بيروت- ما يزيد عن مليون و56 ألفًا أغلبهم من المسلمين، مما أثار مخاوف المسيحيين اللبنانيين من تأثيرات ذلك على التركيبة السكانية في لبنان.
اما من النحية الاقتصادية تحدث ضغوط على الموارد الاقتصادية للدول المستَقْبِلَة؛ التي تُعاني اقتصاداتها في الأصل من تعثرات فى سوق العمل فعلى سبيل المثال بلغ إجمالي عدد اللاجئين السوريين في الأردن منتصف عام 2015 حوالى 620 ألفًا، بما يُوازي 10% تقريبُا من إجمالي عدد السكان في الأردن، من بينهم ما يقرب من 160 ألف عامل سوري. فأدى الى ارتفاع نسبة البطالة بين الأردنيين والتي بلغت في الربع الأول من العام الجاري 11,8% بزيادة عن الفترة ذاتها في العام الماضى والتي كانت النسبة فيها 11%. كما احدث طفرة في الأسعار بشكل عام، وأسعار السكن والمواد الغذائية يشكل خاص ، علاوة على التأثير على البنية التحتية والطرق والمياة والصرف الصحي والخدمات الصحية والتعليمية وهو ما يُمثل خطرًا مُحدِقًا مع استمرار ارتفاع معدلات اللجوء
اما فى مصر فعن أبرز تأثيرات تدفق اللاجئين فحدث ولا حرج على خلفية سقوط نظام جماعة الإخوان المسلمين عقب ثورة 30 يونيو 2013، بعد ان أشارت اتجاهات عديدة إلى مشاركة عدد من السوريين المقيمين في مصر -خاصة الفقراء منهم- في التظاهرات المناهضة لنظام ما بعد 30 يونيو. ولعل ما حدث في المنطقة العربية دفع بعض الدول الأوروبية إلى تشديد الرقابة الأمنية على اللاجئين القادمين من سورياوالعراق حتى لا تتسلل بينهم عناصر من تنظيم "داعش" مما يهدد الاستقرار الأمني والسياسي لتلك الدول.
أنماط توظيف قضية اللاجئين:
على الرغم من أن تدفقات اللاجئين قد مثَّلت أزمة حقيقية للعديد من الدول، سواء داخل منطقة الشرق الأوسط أو خارجها، لما فرضته من ضغوط اقتصادية وسياسية وأمنية، فإنه يبدو أن بعض الدول والقوى السياسية قد بدأت في توظيف قضية اللاجئين للاستفادة منها من خلال أربعة أنماط لتوظيف اللاجئين، يمكن تناولها على النحو التالي:
1- التوظيف السياسي: يتجلى هذا النمط من التوظيف في حالة تركيا؛ حيث ركز الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، خلال الفترة الماضية، على التباهي بالدور التركي في التعامل مع اللاجئين السورين الذين يتواجدون داخل الحدود التركية والذين بلغ عددهم -وفقًا للهلال الأحمر التركي- 1.8 ملايين لاجئ يعيش 11% منهم في مخيمات للاجئين، في مقابل 89% في المدن التركية، وفي مقدمتها إسطنبول، وأورفا، وغازي عينتاب، وإقليم هاتاي (جنوبتركيا).
2- التوظيف الاقتصادي: على الرغم من الضغوط الاقتصادية التي أنتجتها ظاهرة تدفق اللاجئين، فقد توظيفها من قبل بعض الدول لتحقيق مكاسب، حيث تحتاج ألمانيا، على سبيل المثال، بشكل واضح إلى أيدٍ عاملة، فوفقًا لاتحاد أرباب العمل، فإن ألمانيا تحتاج إلى ما يقرب من 140 ألف مهندس ومبرمج وتقني، فضلا عن احتياج قطاع الحرف والصحة والفنادق إلى عمالة، وهو ما انعكس في وجود ما يربو على 40 ألف فرصة تدريب شاغرة في ألمانيا خلال العام الجاري 2015.
ولعل ذلك هو ما دفع أولريش غريللو رئيس اتحاد الصناعات الألمانية للتأكيد على ضرورة الإسراع في إدخال اللاجئين إلى ألمانيا نتيجة احتياج سوق العمل إليهم. هذا بالإضافة إلى حجم الاستثمارات التي يُمكن أن يوفرها اللاجئون الأغنياء في الدول المستَقْبِلَة، فقد استفاد الاقتصاد الأردني بشكل كبير من انتقال رؤوس الأموال إلى الأردن، فقبل عام 2011 كانت الاستثمارات السورية في الأردن لا تتجاوز 4 ملايين دينار، ثم ارتفعت إلى 114 مليون دينار بنهاية عام 2012، ذلك في الوقت الذي أعلنت فيه دائرة مراقبة الشركات أن شهري يناير وفبراير من عام 2014 سجّلا زيادة في قيمة رؤوس الأموال السورية بنسبة 79% مقارنةً بنفس الفترة من عام 2013، حيث ارتفعت من 4,8 ملايين دينار إلى 8,6 ملايين دينار، ذلك بالتزامن مع زيادة عدد المستثمرين السوريين في نفس الفترة من 82 إلى 116 مستثمرًا بواقع زيادة تُقدر ب41,5%، علاوة على ارتفاع عدد المصانع السورية المسجلة في الأردن بنهاية عام 2013 لتصل إلى 370 مصنعًا، وهو ما انعكس في مشاركة المنتجات السورية بما يزيد عن 20% من إجمالي الصادرات الأردنية. كما ساعد تدفق اللاجئين -لا سيما العراقيين إلى مصر- في تنشيط الاستثمار؛ حيث بلغت قيمة الاستثمارات العراقية في مصر خلال عام 2014 ما يقرب من 400 مليون دولار، وهو ساعد في إنعاش السوق المصري لا سيما في مجال العقارات.
3- التوظيف الأمني: تأخذ مسألة التوظيف الأمني لقضية اللاجئين والمهاجرين مسارين: الأول، ويُعتبرُ محدودًا نسبيًّا، هو دمجهم في أجهزة ومؤسسات الدولة، ولا تعبر عنه سوى حالة قيام الرئيس الليبي السابق معمر القذافي بتوظيف اللاجئين والمهاجرين القادمين من دول إفريقيا جنوب الصحراء لمواجهة الثوار، لكنها لا تعتبر حالة شائعة، لا سيما وأن الولاءات الوطنية تبقى رقمًا مهمًا في هذا السياق، حتى لا تحدث تصدعات في بنية الجيوش.
أما المسار الثاني، فهو التوظيف غير المباشر عبر محاولة تجنب تداعيات عدم الاستقرار الأمني في الدول المستقبلة، وهو ما أصبحت تقوم به بعض الدول الأوروبية مع تزايد معدلات اللجوء والهجرة غير الشرعية من دول جنوب المتوسط، حيث بدأت تلك الدول في تبني استراتيجية مزدوجة، تتلخص في قبول دخول أعداد من اللاجئين مثلما أعلنت عنه بريطانياوألمانيا والنمسا وإيطاليا بالطرق الشرعية من جانب، وفي الوقت ذاته التحكم في نوعية اللاجئين الجدد للحيلولة دون تسلل عناصر التنظيمات الإرهابية القادمة بطرق غير شرعية داخل دولهم من جانب آخر.
4- التوظيف الحقوقي: يتبنى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان هذا النمط من التوظيف عبر تأكيده بشكل دائم على ضرورة ضمان حقوق السوريين من خلال استقبالهم من جانب، وتوجيه انتقادات مستمرة للدول الأوروبية لمحاولاتها منع تدفق مزيد من اللاجئين السوريين، حيث يسعى أردوغان من ذلك إلى تحقيق عدة أهداف منها نفي تهمة استهداف الأكراد ممثلين في حزب العمال الكردستاني الذي يشن ضده حربًا ضارية خاصة في جنوب البلاد، وزيادة الضغوط على الاتحاد الأوروبي من أجل تغيير موقفه تجاه انضمام تركيا، باعتبارها المدافع الأهم، وفقًا لمزاعم أردوغان، عن حقوق السوريين في منطقة الشرق الأوسط من منطلق أعداد اللاجئين الذين تستضيفهم بلاده.
وإجمالا، يبدو أن ظاهرة توظيف الدول والأفراد لتدفقات اللاجئين سوف تسير في اتجاه متصاعد ومستمر، لا سيما مع عدم وجود استراتيجية دولية موحدة وواضحة للتعامل مع قضية اللاجئين، فضلا عن تزايد الحاجة إلى جهود هؤلاء اللاجئين في العديد من الدول، علاوةً على استمرار الصراعات السياسية -سواء الداخلية أو بين الدول وبعضها بعضًا- التي يتم فيها استخدام ورقة اللاجئين لتحقيق مكاسب سياسية. لمزيد من مقالات سعاد طنطاوى