شهرة أينشتيان تجاوزت حدود ثورته على نيوتن، إذ يكفى القول بأن السلطة الإسرائيلية قد رشحته لتولى منصب الرئاسة إلا أنه اعتذر. أما نيلز بور فهو من أصل دنماركى ومشهور فى حدود ثورته على الفيزياء الكلاسيكية مع فريق من علماء الفيزياء النووية الذين بزغوا مع بداية القرن العشرين. إلا أن ثورته لم تكن موضع قبول من أينشتاين، ومن هنا نشأت المناظرة بينهما، وهى مناظرة جديرة بأن تُروي، وقد رواها مفكر انجليزى اسمه مانجيت كومار مؤسس ورئيس تحرير مجلة «بروميثيوس» وهى مجلة تجمع بين الآداب والعلوم، ومؤلف مشارك لكتاب عنوانه «العلم وانسحاب العقل» (1995) يدافع فيه عن التنوير وما ينطوى عليه من مفهومين هما «التقدم الاجتماعي» و «التقدم العلمي». أما كتابه الذى يروى فيه المناظرة فعنوانه «أينشتاين - بور..المناظرة الكبرى حول طبيعة الواقع» (2009). وكانت بدايتها فى 27 أبريل 1920 عندما التقى نيلز بور أينشتاين فى برلين بمناسبة دعوته لإلقاء محاضرة عن الثورة فى مجال الذرة. وعند لقائهما دار الحوار حول بيان اختلافهما من حيث إن نيلز بور يذهب إلى التشكيك فى مبدأ السببية القائل بأن لكل نتيجة سببا يوجدها بالضرورة وإحلال مفهوم «الصدفة» بديلا عنه فى مجال الفيزياء النووية. فقد انحاز بور إلى الصدفة أما أينشتاين فقد انحاز إلى مبدأ السببية. وبعد ذلك اللقاء ازداد الخلاف بينهما عندما التقيا فى مؤتمر سولفاى الذى انعقد فى عام 1927 ببروكسل عاصمة بلجيكا. والذى أدى إلى ازدياد ذلك الخلاف عالم فيزيائى ألمانى اسمه فرنر هيزنبرج كان قد أعلن مبدأ جديدا فى صيف عام 1925، أى قبل انعقاد مؤتمر سولفاى بعامين، اسمه «مبدأ عدم اليقين» ومفاده أنه من المحال معرفة الموضع الدقيق لجسيم مثل الالكترون ومعرفة سرعته فى آن واحد، بمعنى أنه كلما زادت دقة قياس موضع الجسيم تناقص احتمال قياس حركته بدقة. وقد ترتب على ذلك عدم خضوع الكون لقوانين سببية ثابتة، ومن ثم تحل الصدفة واللاحتمية والاحتمالية محل الضرورة والحتمية واليقين. وفى هذا الاطار تكونت مدرسة فيزيائية نووية أطلق عليها «مدرسة كوبنهاجن» برئاسة نيلز بور مفادها أن خصائص أى جسيم لا يمكن تناولها بمعزل عن سياق الطريقة التى يمكن بها رصد موضع الجسيم أو حركته. وفى صياغة أخرى يمكن القول بأنه ليس ثمة حقيقة موضوعية مستقلة عن قدرتنا على الرصد. ومن هنا يمكن فهم عبارة نيلز بور القائلة بأنه من الخطأ الاعتقاد بأن «مهمة الفيزياء اكتشاف ماهية الطبيعة، إذ إن علم الفيزياء لا يهتم إلا بما يمكن قوله عن الطبيعة»، وكذلك فهم عبارة هيزنبرج القائلة بأنه «عندما يرغب الإنسان فى حساب المستقبل استناداً إلى الحاضر فإنه لن يحصل إلا على نتائج إحصائية بسبب عجزه عن معرفة تفاصيل الحاضر». أما أينشتاين فقد دافع فى ربيع 1927- بمناسبة مرور قرنين من الزمان على وفاة نيوتن -عن الميكانيكا الكلاسيكية القائمة على السببية واليقين مع أنه رفض قول نيوتن بالزمان المطلق والمكان المطلق، وأحل محله القول بالزمان النسبى والمكان النسبى وذهب فى هذا الإحلال إلى حد القول بأن الزمان هو البعد الرابع للمكان. واللافت للانتباه هاهنا أنه بالرغم من عمق الاختلاف بين أينشتاين وبور فقد قال أينشتاين لصديقه العالم الفيزيائى إيرنفست: «أنا مثلك تماما مفتون للغاية بنيلز بور. إنه موهوب لأبعد حد وانسان عظيم بلا جدال. أما بور فقد قال: «إن لقائى بأينشتاين وحديثى معه من أعظم الخبرات التى مرت بحياتي. وليس فى إمكان أحد أن يتخيل مدى تأثيره العميق عندما استمعت إليه وتحدثت معه». ومع ذلك فإن معاركهما معا لم تتوقف حول نظرية الكوانتم. فقد قال أينشتاين «إن معضلة مدرسة كوبنهاجن قد تدفعنى إلى دخول مستشفى الأمراض العقلية». ومع ذلك فإن أينشتاين كان حريصاً على قراءة أبحاث نيلز بور التى قال عنها «إنها نوع من المعجزة». وبعد ذلك بشهر قال بور فى السنوات القليلة الماضية غالبا ما كان ينتابنى شعور بالعزلة، إذ كان لدى انطباع بأن جهدى فى تطوير مبادئ نظرية الكوانتم إلى أفضل وجه ممكن قد قوبل بفهم ضئيل. والمفارقة هنا أن أينشتاين نال جائزة نوبل فى عام 1921 ونالها بور فى عام 1922 ونالها هيزنبرج فى عام 1934. إلا أن أينشتاين لم يكن سعيداً بنيل الجائزة، إذ كانت حياته معرضة للخطر بسبب عنف اليمين السياسى خاصة بعد اغتيال وزير الخارجية الألمانى من أصل يهودى فى 24 يونيو 1922، أما هو فقد كان ترتيبه فى اغتيالات اليهود رقم 354. واللافت للانتباه هاهنا للمرة الثانية أن كلا من أينشتاين وهيزنبرج قد أقحما الله فى العلم. فقد رفض أينشتاين نظرية الكوانتم التى تبرر الصدفة بديلاً عن الضرورة، وقال عبارته المشهورة «إن الله لا يلعب النرد». أما هيزنبرج فقد قال وهو على فراش الموت إنه سيوجه إلى الله سؤالين: لماذا سمح بنظرية النسبية؟ ولماذا سمح بزلزال الكوانتم؟ ثم استطرد قائلاً: أظن أن الله ليس لديه سوى جواب واحد عن السؤال الأول أما السؤال الثانى فالجواب عنه ليس وارداً. وإثر إثارة هذين السؤالين قيل إن العلم قد رسم خطاً على الأرض وقال: ليس فى الإمكان مواصلة البحث بعد حدوث ذلك الزلزال لأن الزلزال يعنى الفوضي. والسؤال بعد ذلك: ما العلاقة بين الله كمطلق و بين العلم من حيث هو صناعة بشرية يتسم بالنسبية؟ الجواب متروك للمهمومين بتجديد الخطاب الديني. لمزيد من مقالات مراد وهبة