الصراعات الممتدة التى شهدتها دول عدة فى المنطقة العربية خلال السنوات الماضية كسورياوالعراق وليبيا واليمن خلفت العديد من الأزمات. كان أبرزها أزمة اللاجئين الفارين من مناطق الصراع إلى مناطق أخرى يُعتقد أنها تمثل لهم ملاذات آمنة، وتعتبر أزمة اللاجئين السوريين من أكثر تلك الأزمات حضورا على الساحة الدولية خلال الأسابيع الماضية، والتى تمخضت عن صراع ممتد دخل عامه الخامس دون أن تلوح فى أفقه أية بادرة للحل، وقد تسبب هذا الصراع فى هجرة عدد ضخم من السوريين الذين يصنفون بأنهم إما لاجئون أو مهاجرون شرعيون، أو مهاجرون غير شرعيين. فوفقا للمفوضية العليا لشئون اللاجئين بلغ عدد اللاجئين السوريين حتى الآن حوالى 4 ملايين شخص موزعين على عدة دول مجاورة وصلت إلى الحد الأقصى فى قدرتها على الاستيعاب كلبنان وتركيا والأردن والعراق ومصر، وهى الدول نفسها التى تحملت العبء الأكبر فى مواجهة أزمة اللاجئين بإمكانات وموارد اقتصادية محدودة بعد فشل القوى الإقليمية والدولية فى إنهاء الحرب السورية، هذا بالإضافة إلى أكثر من 200 ألف لاجئ وصلوا إلى الدول الأوروبية مؤخرا وهو ما يعتبر عددا ضئيلا مقارنة بأعداد اللاجئين فى الدول المذكورة، كما بلغ عدد النازحين داخل الأراضى السورية نفسها حوالى 7 ملايين شخص، مجمل هذه الأرقام وتداعياتها الإنسانية تشير إلى أننا أمام أكبر وربما أسوأ أزمة إنسانية يشهدها العالم حاليا، والتى تفرض على المجتمع الدولى مسئولية مباشرة فى مواجهة أسبابها ووضع آليات لمعالجتها. تفاقم الأزمة أزمة اللاجئين السوريين إذن قائمة فى البلدان المجاورة للأراضى السورية والتى تحملت تبعات هذا الأمر اقتصاديا واجتماعيا وأمنيا دون أن تنال اهتماما دوليا كافيا بها طوال السنوات الأربع الماضية، لكنها تفاقمت وازداد الاهتمام الإعلامى العالمى بها بصورة سريعة فى أعقاب حالة الهجرة المتتالية على مدى الأسابيع الماضية إلى الدول الأوروبية، والتى تباينت ردود أفعالها بين رافض قبول تلك الأعداد الضخمة من المهاجرين وبين مرحب بها؛ وتتمثل أبرز مؤشرات تفاقم الأزمة فى عدة نقاط: أولاها، تشير إلى التخلى عن المسئولية الدولية فى علاج الأزمة منذ أن بدأت دول الجوار السورى تئن تحت وطأة تداعيات استيعابها لملايين الفارين السوريين من مخاطر الصراع فى بلادهم، والاكتفاء بإلقاء المسئولية على المنظمات والهيئات التى تعمل فى مجال تقديم المساعدات الإنسانية، والتى باتت بعد خمس سنوات غير قادرة على معالجة الوضع حتى على مستوى عملها الإنسانى. وثانيتها، تشير إلى عدم الوعى بمدى ضخامة المشكلة وخطورتها إذا ما استمرت الدول المعنية بالصراع السورى على الصعيدين الإقليمى والدولى فى سياستها القائمة على إدارة الصراع وفقا لما يحقق مصالحها إقليميا ودوليا وليس وفقا لمصالح الشعب السورى، وهو مؤشر لا يُؤَكد انتفاؤه على المدى القريب. وثالثتها، تشير إلى أن عودة اللاجئين السوريين إلى وطنهم باتت مستبعدة فى الوقت الراهن، ما يزيد من احتمالات عدم الاستقرار فى المنطقة، والذى نتج عنه انتقال فعلى لتداعيات الأزمة من منطقة الأحداث فى الشرق الأوسط إلى مناطق أخرى فى العالم، وبالتحديد إلى الدول الأوروبية المسئولة بصورة أو بأخرى عن تزايد تلك الأزمة. عوامل مغذية فى سياق المؤشرات السابقة وفى إطار البحث عن أسباب تفاقم أزمة اللاجئين وتدفقهم يمكن رصد ما يلى: أولا، أن الصراعات - وما ينتج عنها من عدم استقرار سياسى وأمنى واقتصادى – أصبحت تمثل أسبابا مباشرة فى رفع أعداد اللاجئين والنازحين قسرا لاسيما إذا امتزجت تلك الصراعات ببعد طائفى كالوضع فى العراقوسوريا على سبيل المثال، حيث تتزايد معدلات انعدام مؤشرات الأمن فى كلتا الدولتين. ثانيا، أن سياسات القوى الدولية فى الشرق الأوسط بصفة عامة تعتبر عاملا رئيسيا فى إذكاء الأزمات وتعميقها وتكريس سلبياتها بما يضعف دول المنطقة من ناحية ويخدم مصالح تلك القوى من ناحية أخرى؛ وتعتبر الحالة السورية مثالا نموذجيا على هذا الطرح؛ فسياسات الولاياتالمتحدة وروسيا والدول الأوروبية كانت ومازالت تمثل سببا مباشرا فى استمرار الأزمة السورية؛ حيث أدى تضارب مصالح مشاريع تلك القوى مع بعضها البعض ومع غيرها من القوى الإقليمية التى تعتبر سوريا نافذتها العربية – إيران – إلى استمرار الصراع ليدخل عامه الخامس بما ترتب على ذلك من أزمة إنسانية ملحة. ثالثا، مسئولية النظام السورى عن تفاقم أزمة اللاجئين والنازحين نتيجة للمجازر التى يرتكبها بحق مواطنيه، ونتيجة لسياساته الوحشية فى التعامل مع المناطق التى تتواجد بها المعارضة وتمثل حواضن شعبية لها لاسيما استخدامه للأسلحة الكيماوية والبراميل المتفجرة، ناهيك عن حالات الاعتقال والتعذيب وغيرها، أما المناطق الواقعة خارج سيطرته فمارس تجاهها سياسة الحصار على مدى أربع سنوات منع فيها دخول الأدوية والمواد الأساسية والأغذية. رابعا، سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية «داعش» على مساحات واسعة فى شمال وشرق الأراضى السورية بالتداخل مع المقاتلين الأكراد، وعلى مدينة دير الزور ومدينة الرقة ومنطقة الحدود السورية العراقية، وفرضه نمطا حياتيا معينا فى إخضاع قاطنى تلك المناطق يقوم على الترهيب والوعيد والاعتقال والقتل ما دفع بعضهم للنزوح والبعض الآخر للهجرة عبر البحار إلى أوروبا. خامسا، التدمير الهائل الذى لحق بالبنية التحتية فى سوريا خاصة قطاعات الكهرباء والمياه والصرف والصحة بالإضافة إلى تزايد معدلات الفقر والبطالة، مما زاد من وطأة الحياة اليومية بالنسبة للسوريين الذين آثروا المخاطرة بأرواحهم - بحثا عن الآمان وفرص العمل - على بقائهم فى مناطقهم التى مزقها الصراع. سادسا، البعض يشير إلى دور تركى أسهم فى تدفق اللاجئين للحدود الأوروبية بهذه الأعداد الضخمة على خلفية قيام أنقرة بتسهيل عبور السوريين الحدود إلى أوروبا عبر فتحها بريا وبحريا؛ ثم الانتقال إلى أوروبا عبر اليونان، ويفسر سلوك السلطات التركية بأنها تحاول دفع أوروبا إلى تحمل مسئولياتها تجاه السوريين لاسيما بعد العقبات التى حالت دون إتمامها مطلب إقامة منطقة عازلة فى شمال سوريا، فى الوقت الذى دعمت الولاياتالمتحدة والدول الأوروبية تسليح الميليشيات الكردية فى المنطقة الممتدة من القامشلى شرقا إلى كوبانى (عين العرب) غربا على الحدود التركية،هذا بالإضافة إلى الأعباء الاقتصادية التى باتت تعانيها نتيجة للأعداد الضخمة من اللاجئين السوريين المتواجدين على أرضها. طويلة الأمد المؤشرات والمسببات السابق عرضها تشير إلى أن أزمة اللاجئين مرشحة مستقبلا لتكون أزمة طويلة الأمد نتيجة استمرار الأسباب والعوامل التى دفعت الآلاف من المهاجرين للمجازفة بحياتهم أملا فى الوصول لأوروبا، كما أن استمرار الهجرة بهذه الأعداد الضخمة من شأنها إفراغ الأوطان من عنصرها البشرى، وهو ما يعنى فتح الباب لمزيد من الانهيارات الداخلية على الأصعدة السياسية والاقتصادية والسكانية، وهو أمر يخدم إلى حد كبير سياسات بعض القوى الدولية فى المنطقة التى استطاعت إدارة الأزمات التى ضربت دول مؤثرة فى الشرق الأوسط – سورياوالعراق تحديدا- وتوجيهها بطريقة تخدم مصالحها. لكن التساؤل هو: هل هناك «سيناريوهات عامة» لدى الفاعلين الدوليين لاستيعاب هذه المعاناة الإنسانية السورية؟ وهل بإمكان أوروبا الضغط على الدول المؤثرة فى الأزمة وبالتحديد الولاياتالمتحدة لتتحمل مسئوليتها عن دورها فى استمرار تلك المعاناة على مدى أربع سنوات كاملة؟ مداخل الحل هناك بعض التصورات التى يمكن أن تمثل مداخل للبحث عن حلول لأزمة اللاجئين وهى: التصور الأول، يتعلق بالبحث عن أصل المشكلة وهو استمرار الصراع السورى دون أن يكون هناك أفق للحل، ما يعنى أن عودة ملايين اللاجئين لوطنهم باتت مرهونة بايجاد حل «جذرى» ينهى الصراع، وذلك عبر دعم عسكرى أكثر فعالية للمعارضة السورية المسلحة بصورة تمكنها من الإجهاز على نظام الأسد بدمويته وطائفيته ما يمكن من عودة اللاجئين، لكن هذا التصور يبدو تصورا «خياليا» فى الوقت الراهن على الرغم من الانتصارات التى تحققها المعارضة فى مواجهة النظام؛ وذلك لأن إسقاط الأسد ونظامه بعد أربعة أعوام لن يكون بمعركة عسكرية وإنما بحل سياسى تفاوضى يضمن للجميع مصالحه، يضاف إلى ذلك التحولات فى الموقف الروسى الذى اتجه إلى تقديم دعم عسكرى مباشر للنظام السورى بذريعة محاربة داعش ما يزيد من قدرة النظام على الصمود ويمد كثيرا فى أمد الأزمة. التصور الثانى، يتعلق بما تفرضه أزمة اللاجئين من ضغوط فعلية على الدول الأوروبية لاسيما التعديل المحتمل فى بنيتها الديموغرافية والدينية، ما سيجعلها أمام خيارات صعبة تدفعها لاتخاذ موقف حاسم بشأنها، وهنا سيكون الطرح التركى بإقامة مناطق عازلة حاضرا وبقوة كأحد الحلول؛ ولن يتوقف عند حد إقامة تلك المناطق فى النطاق الحدودى مع تركيا، بل سيتسع ليشمل كل المناطق المحررة من قبضة النظام بما يمكن من توفير ممرات إغاثة إنسانية آمنة غير معرضة للقصف الجوى، ومن ثم يصبح بإمكان معظم المهاجرين السوريين العودة لوطنهم تحت حماية دولية. التصور الثالث، يتعلق باستمرار الوضع الراهن كما هو عليه؛ أى استمرار «المحافظة» على نظام الأسد من السقوط فى سياق تضارب المصالح الأمريكية الأوروبية مع المصالح الروسية الإيرانية فى المنطقة ذاتها، ما من شأنه أن يجعل عملية حساب مكاسب وخسائر إزاحة نظام الأسد للطرفين عملية بطيئة ومرتبطة بملفات أخرى محل خلاف أوروبى روسى لاسيما أزمة أوكرانيا على سبيل المثال، هذا التصور يعنى أن فرص عودة ملايين اللاجئين السوريين لوطنهم تكاد تكون معدومة لأن الصراع سيستمر لفترة أطول، وربما تلجأ الدول الأوروبية إلى تقديم المزيد من الدعم لدول الجوار السورى الراعية للاجئين لتمكينها من الاستمرار فى تقديم الخدمات الإنسانية لهم بما يقلل مستقبلا من حجم اللجوء لأوروبا، أو أن تلجأ إلى ابتداع حلول لاستيعاب هذه الأعداد الضخمة على أراضيها والتكيف مع هذا المتغير الجديد، ولكن هذا الأمر سيلقى بمزيد من التبعات على المواطنين الأوروبيين أنفسهم وهو ما سيكون له تداعيات غير مسبوقة على الداخل الأوروبى مستقبلا. محنة مركبة يمكن القول إذن إنه من الخطأ اعتبار أزمة اللاجئين السوريين أزمة إنسانية فقط، بل فى واقع الأمر هى أزمة سياسية أسفرت عن تداعيات إنسانية مؤلمة ما يتطلب معالجة بعدها السياسى أولا، ومن الخطأ أيضا اعتبار تلك الأزمة ومعالجتها مسئولية أوروبية محضة؛ بل هى مسئولية عربية أيضا فالأزمة أماطت اللثام عن حالة عجز عربى مزرية، فلم تكن الدول العربية على مستوى الحدث وتطوراته فى انعكاس واضح لتحلل النظام العربى وتفككه الذى يبدو أنه قد شارف على الغرق إن لم يكن قد غرق بالفعل يوم أن امتنعت دوله الأكثر استقرارا وغنى عن استيعاب هذه المحنة السياسية الإنسانية الكبرى.