يُعَدُّ عقد الزواج من أهم العقود التي يعقدها الإنسان في حياته، وقد أشار ابن العربي المالكي، وتبعه كثير من فقهاء المالكية في ذلك، إلى أن عقد الزواج وعقد البيع من العقود التي عليها قوام الإنسان؛ فعقد الزواج عقد يربط بين رجل وامرأة كل منهما مفتقر إلى الآخر ليثمر عن هذا العقد بقاء النوع الإنساني واستمرار الأجيال، وأيضًا فالإنسان محتاج إلى الغذاء، فشرع عقد البيع للتوصل إليه. ومن عادة الإنسان أنه لا يقدم على عمل المشروعات الكبيرة إلا بعد دراسة شاملة لكل أوجه هذه المشروعات، لكي تثمر ثمرات حقيقية تحقق الأهداف المرجوة منها، ولا ريب أن هذا العقد الجليل عقد الزواج- هو أهم مشروع يفعله الإنسان في حياته، ولهذا كان لا بد قبل الإقبال عليه أن يتعرف كل طرف من طرفي هذا العقد على الآخر تعرفًا يؤدي إلى تحقيق الوئام بينهما إذا ما تم هذا العقد؛ ولهذا كانت مرحلة الخِطْبة من الأمور المهمة للسير في هذا الشأن الكبير. وباستقراء الأحكام الشرعية التي استنبطها الفقهاء من أدلة الشرع الشريف نلحظ اهتمامهم بهذه المسألة التي هي مقدمة أصيلة لهذا العقد الذي سُمي في الشرع ب »الميثاق الغليظ«، قال تعالى: (وَأَخَذْنَمِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا) [النساء: 21]. وقد حرص الشرع الحنيف كل الحرص لأجل تحقيق مقاصد العقد الشرعية؛ حيث أَوْلَى مسألة اختيار كل من الخاطِبَيْن للآخر عناية خاصة، فأمر بالبحث عن أخلاق كلٍّ منهما والمبادئ المستقرة في أسرتيهما : ففي جانب المرأة أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببواعث الناس عادة على الإقدام على الزواج، محفزًا المقبلين على هذا الأمر أن يكون الدين بمعنى الأخلاق والتربية الحسنة - مطمح أمرهم فيما يأخذون ويتركون؛ إذ الزواج شأن يدوم أمره وتزداد أهميته، وذلك في قوله:«تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذاتالدين، تربت يداك« (متفقٌ عليه)، و«تربت يداك« كلمة جارية على ألسنة العرب يقصدون بها التحفيز وإثارة الكوامن نحو فعل الصالح للإنسان . وفي جانب الرجل يرشد النبي صلى الله عليه وسلم النساء وأولياءهن إلى أساس اختيار الأزواج بقوله : »إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض، وفساد عريض« (سنن الترمذي/ 1084). وبهذا يتضح أن الأساس في تكوين الأسرة هو حُسْن الاختيار وهو الضمان الحقيقي للنجاح في الحياة الزوجية، كما تدل التجربة الإنسانية على ذلك. وقد وقف التشريع الإسلامي في تحديده لعلاقة الخاطبين ببعضهما في مدة الخطبة موقفا وسطا، فلم يساير أولئك الذين ينغلقون على أنفسهم ولا يسمحون للخاطب أن يرى مخطوبته أو أن تراه، ولم يرتض ِكذلك مسلك من استخدم الحرية بمفهومها المخطئ في المساواة بين علاقة الخاطب بمخطوبته مع العلاقة الزوجية، فانحرف عن المزاج العام ومنظومة الأخلاق التي ارتضاها الشرع الشريف وقبلته العقول السوية، فأعطى هذا المسلك للخاطبين الحرية التامة في أن يفعلا ما يريدان دون الوقوف عند ما دعا إليه النظام العام في كل المجتمعات التي تحيط نفسها بسياج من الأخلاق والقيم. ومن ثَمَّ فإن التشريع الإسلامي أباح لكلٍّ من الخاطبين أن يرى كلُّ منهما الآخر ويتعرف عليه بطريقة حضارية تؤدي إلى تحقيق الوئام والمودة بعد العقد، ولا تؤدي إلى ترك آلام وأحزان عند العدول عن الخطبة من أحدهما، وهو حقُّ مكفولٌ لكلٍّ منهما، ما دام قد وجد مبرر له، وقد ورد في السنة النبوية الشريفة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نصح المغيرة بن شعبة رضي الله عنه حينما خطب امرأة بقوله: »انظر إليها، فإنه أحرى أن يؤدم أي يؤَلَّف بينكما« (سنن الترمذي/ 1087). وبهذا يكون التشريع قد وضع المنهج القويم في اختيار كلا الزوجين للآخر، مما يضمن استمرار العلاقة الزوجية على أساس متين، يحافظ به كل منهما على حقوق الآخر باختيار بدافع من أمر الشرع الحنيف له بذلك، لقوله تعالى:« ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف« مما يعني تبادل الحقوق والواجبات بين الزوجين، وهو الأمر الذي يفرض وجود أساس محفز ودافع للالتزام بتطبيق هذه الحقوق في إطار هذه العلاقة. إذن فلم يقف اهتمام الفقهاء عند الأحكام التي تضبط علاقة الخاطبين ببعضهما في مدة الخطبة، بل تعدى ذلك إلى الاهتمام ببيان الأحكام المتعلقة بطبيعة الخطبة نفسها، ومدى إمكان العدول عنها والآثار المترتبة على ذلك، وكل ذلك إنما يفصح عن أهمية هذه المرحلة لهذا العقد الجليل. لمزيد من مقالات د شوقى علام