ما أن تبدأ الشمس فى سحب أشعتها القوية وتهدىء من لهيب حرارتها وتسمح باطلالة نسمات العصارى الغضة حتى يبدأ الصغار فى الخروج من بيوتهم المكتظة إلى الشارع. يبحثون عن الترفيه والمتعة والتسلية فى اجازة صيفية تلوح لهم بالفراق بعد أيام قليلة. فى روض الفرج ، إمبابة، السيدة زينب، منشية ناصر، بولاق الدكرور..صبيان وبنات وشباب لا تسمح لهم قدراتهم المادية ولا مستوياتهم المعيشية للاشتراك فى النوادى الرياضية أوفى الأنشطة الفنية والترفيهية المدفوعة..لكنهم يقضون أوقاتهم على طريقتهم الخاصة من خلال ألعاب شعبية جماعية مازالت رغم اندثار الكثير منها وغزو الألعاب الالكترونية، لها سحرها الخاص0
الحجلة ..السبع طوبات..الاستغماية..شد الحبل..السيجة عسكر وحرامية...الطيارة الورق ..النحلة والبلى وطبعا كرة القدم التى تعد أقدم هذه الألعاب التى ابتكرها المصرى القديم وكان يصنعها من أكياس نسيج الكتان وحشاها بالقش والخيش والمعروفة شعبيا باسم « الكرة الشراب ». وبعيدا عن تأصيل تاريخ هذه الألعاب الممتدة زمنيا إلى الحقبة الفرعونية إلا أنها تعتبر أحد عناصر التراث الشعبى وجزءا مهما من الذاكرة والوجدان الجماعى للمجتمع, وهى تعكس البيئة والثقافة السائدة وليست فقط وسيلة للمتعة واللهو واستنفاذ طاقة الصغار فقط. فى أزقة منطقة روض الفرج وفى حارة الجباسة اجتمع عمر وعبد الله وحسن وكباكا و حمبولا.. صبية فى عمر الزهور ما بين العاشرة والثالثة عشرة يلعبون الكرة فى مباراة تتخللها بعض الضحكات و«القفشات » وأيضا المشاجرات التى سريعا ما تصفو، فاليوم لازال طويلا والألعاب كثيرة. يقترح أحدهم التبارى بعدها فى قوة العضلات والعزيمة من خلال لعبة «شد الحبل» و يطلبون من جاراتهم «أم عز» حبل غسيل، لتبدأ منافسة حامية الوطيس بين الفريقين تتخللها نجاحات واخفاقات وإصابات. بعدها تبدأ مباراة أخرى بين الصغار والفائز هو من ينجح فى الاخلال بتماسك السبع طوبات و طرحهن أرضا. أما يوسف فقرر أن ياخذ طائرته الورقيه ليشارك فى ماراثون آخر يدور بالقرب من « حيهم» فى منطقة رملة بولاق...وسط أكوام من القمامة والمخلفات اعتاد أبناء الحى مشاهدها وروائحها، يتبارى الصغار والشباب فى الوصول بطائراتهم إلى عنان السماء..فى حين يستمتع بعضهم بالايقاع بطائرات الآخرين والاستيلاء عليها، لتصبح شهرته ولقبه المعروف هو « صائد الطائرات». أما الفتيات فلهن أيضا نصيب من الألعاب الشعبية, فحبيبة وفاطمة ومريم، نزلن إلى الشارع لرسم الأولى أو الحجلة و الاستمتاع بلعبها فى أحد أزقة جزيرة بدران، ليستبدلنها بعد قليل بالاستغماية أو نط الحبل، أو لعبة تبادل دور الأمهات والأبناء فى مسرحية من مدرسة الحياة من تأليف وإخراج «البنات» أنفسهم. ألعاب كثيرة ومتعددة لكننا لم نر النحلة أو البلى وحين سألنا عنهم قال الصغار: « ده مش موسمهم »، كان فى أول الصيف. فللألعاب لديهم مواسم تقررها حرارة الجو وأيضا أصحاب دكاكين اللعب. وفجأة يقرر الصغار ترك ما بأيديهم من العاب بعد أن أعلن عمر الصغير خبر استيقاظ « أم سيد» التى تسهر ليلا وتصحو فى وقت العصارى. أم سيد هى إحدى اشهر شخصيات المنطقة , بعد ان تحول بيتها الصغير لدكان لتأجير الدراجات. فركوب الدراجة هو الأكثر متعة لاطفال الحى..فى مقابل جنيه أو اثنين يقوم كل منهم بامتلاك واحدة لمدة ربع ساعة أو أكثر - حسب الاتفاق - يلهو بها..يجوب الأزقة..يحاول تقليد الأكبر سنا برفعها وأداء بعض الحركات البهلوانية التى يراهم يؤدونها على « المكن» أى الدراجات البخارية الحديثة, وسط تشجيع الأصدقاء. حركات تبدو خطيرة أحيانا بل قد تؤدى إلى اصابات لكنها لا تخلو من المتعة. نعم فهو جيل «عبده موته» و أفلام السبكى..وأكثر ما يمتعهم فى ألعاب الأتارى والفيديو جيم لدى عم رأفت زكى, هى ألعاب المصارعة والملاكمة. هنا فى حارة حجازى الشرقى، شباب وصغار يجتمعون بعد الرابعة عصرا أمام منزل عم رأفت، الموظف صباحا فى شركة المياه، وفى المساء صاحب طاولة البنج والعاب الفيديو جيم فى الشارع لتختلط أصوات مشجعى مباريات البنج وكرة القدم فى الساحة الشعبية وسط البيوت المتهالكة، بصيحات الانبهار والاستمتاع بالعاب الأتارى والبلاى ستيشن..صغار وشباب يقضون سهراتهم فى اللعب وتبادل الحكايات والتفاخر بأن الممثل محمد رمضان الشهير بينهم ب «عبده موته» كان يلعب هنا على طاولة البنج قبل أن يعلو نجمه. سهرة تمتد حتى ما بعد منتصف الليل أحيانا طلبا للمتعة والتسلية وتفريغ طاقة الصغار..تاخذهم فيها الأتارى والفيديو جيم والبلاى ستيشن بعوالمها ، يوما بعد يوم من الألعاب الشعبية الأخرى التى تقاوم بأدواتها البسيطة والمتاحة فى البيئة المحيطة سحر عالم الالكترونيات الحديثة وخطر الاندثار. عالم سحرى من الألعاب الشعبية يحتاج للاهتمام..والدراسة والتوثيق وتشجيع المفيد منه ودعمه...فهو يشكل وجدان وسلوك وجوانب مهمة من شخصية أجيال المستقبل..وليس فقط « لعب عيال».