(1)دخل شاب حانوتا قديما ، لخياط عجوز، فقدم الشاب قطعة قماش مستوردة ( صوف انجليزي) للرجل العجوز، وقال له مؤكداً :يا عم جابر .. أريد جلباباً ( عليه القيمة للمناسبات ).. ليس به عيب يٌذْكر.. ولك ما تطلب من الأجر.. ابتسم العجوز دون أن ينبس ببنت شفة ، ثم ربت علي ذراع الشاب الفارع ، وبعد لحظات من الصمت، وتمتم بفم مرتعش: - إن شاء الله يا بني.. بعد يومين طلبك سيكون جاهزاً.. (2) اجتهد عم جابر الخَيَّاطْ وسهر الليل ؛ ليكون الثوب جيداً ومتقناً ، خاليا من العيوب تماماً ! (3) وبعد أن تسلم الشاب ثوبه من الخياط العجوز، عاد إليه في اليوم التالي ،فقال للخَيَّاطْ العجوز وكله أسف وحزن: - يا عم جابر لقد وجدت بعض العيوب في حياكة الثوب، وهذا لم يكن اتفاقنا. ( وأراه إياها) فأجهش عم جابرالخَيَّاطْ بالبكاء الشديد ..فتأثر الشاب ببكاء العجوز وضمه إلي صدره في حنو وقال له متأسفاً: •لا عليك يا عم جابر ..لا تشعرني بالذنب هكذا الثوب يعجبني.. سامحني.. والله ما قصدت أن أحزنك وأنا راض بالثوب علي حالته .. ولن أنقصك جنيهاً من أجرك.. وبعد صمت دام طويلاً ، نطق عم جابر بشفاه مرتعشة وهو يركن نظارته الطبية علي صوان جواره ، و لا يزال ينخرط في البكاء وصوته يكاد لا يخرج من حنجرته المعروقة : •يا بني ليس علي هذا أبكي، لكني أبكي لأنني عملت كل جهدي ؛ لأتقن لك حياكة الثوب،ثم خرجت تلك العيوب الظاهرة، فانا أبكي علي طاعتي لربي، وقد اجتهدت بها عمري الطويل فكم فيها من العيوب ! فابتسم الشاب في وجه العجوز.. وعاد يربت عليه من جديد..... «باَب سعادة»
(1) لم يبق لها بعد موت زوجها وأبويها إلا ولد صغير لا يتعدي السابعة .. يؤنسها وتؤنسه ، عاشت برفقته في حجرة صغيرة .. بلا سقف كانت .. فوق سطح أحد المنازل القديمة .. القناعة تخيم علي الأم ..الفارعة .. ( الأربعينية ) .. ولكن الذي كان يزعجها من آن لآخر حبات المطر المتفاوتة التي تتساقط علي ملابس طفلها فيسعل من برودتها .. (2) وفي ليلة شاتية ، اشتدت زخات المطر ، وامتلأت السماء بسحب حُبلي ، ارتعدت فرائص الأم وهي تلمح الرعب يخيم علي وليدها المرتجف ، زاد هطول المطر وزادت صرخات الطفل .. الأم تأخذ الحجرة جيئاً وذهاباً..تبحث عن حل .. عن شيء تختبئ تحته هي ووليدها .. لم تجد .. عادت السماء تهتز من جديد بالرعد والبرق والمطر الشديد ، كان الطفل يتشبث بثوب أمه الأسود الذي غرق عليها ، صرخاته متقطعة.. تنظر إليه الأم .. تدمع عيناها .. تمزق نياط قلبها .. عندما سمعت صوته المتقطع .. كان الطفل يردد بشفاه مرتجفة : « أمي أمي أنا بردان..! ! « راحت الأم تهمهم بصوت مبحوح : « يا ويلي ..الولد هيضيع مني..إنه كل دنياي..! فأسرعت إلي الباب ، باب الغرفة الخشبي المتهالك..ذو الضلفة الواحدة .. راحت تشده بكل قوتها.. تحاول خلعه.. والطفل يرمقها بقلق.. شاخصاً إليها .. كان مخاط أنفه يتدلي .. وأسنانه تصطك .. انزلقت قدم الأم اليمني في وحل الطمي الذي ملأ أرضية الغرفة.. وقفت من جديد .. وأخذت تكرر المحاولة حتى انخلع الباب من مصراعيه .. لكن أحد المسامير الجانبية الصدئة أصاب يد الأم -المعروقة- فجرحها.. وطَرق الدم كشلال دافقْ .. ندت عنها صرخة مكتومة .. لكنها لم تعر الموضوع – بعد ذلك – اهتماماً... وراحت ترفع الباب بكل ما أوتيت من قوةٍ .. والطفل ينظر إليها بعيون متحجرة.. منتظرة .. صدره الصغير الراقد تحت جلباب ( مِقلَّم) يصدر أزيز ( النزلة الشعبية) .. وبعد لحظات استطاعت الأم أن تجعل الباب يغطي جزءاً صغيراً من سقف الغرفة الواطئة .. كانت قطرات الدم تسيل علي ذراعها العاري .. وزاد هطول المطر من جديد .. خطفت الأم طفلها الصغير بلهفة.. واختبأت معه تحت الباب .. فسقط ماء المطر بعيداً عنهما .. وهنا نظر الطفل إلي أمه في سعادة بريئة وقد علت سحنته ابتسامة الرضا .. فقال لأمه الشجاعة وهو يحضنها بيديه ( النونو) : « أمي.. ماذا يفعل الفقراء الذين ليس عندهم باب حين ينزل المطر ؟؟! فتبسمت الأم – لأول مرة – هذا اليوم .. وضمت طفلها إلي صدرها بحنو زائد ..وقتها.. كان الدم القاني يتجلط بين أصابعها....