أهل السنة والجماعة لهم منهج واضح في تعاملهم مع مكانة وحقوق هؤلاء الصحابة الكرام، ذكرها المصنفون في كتب الاعتقاد، فحقوقهم على الأمة من أعظم الحقوق، فلهم على الأمة ما يلي: - محبتهم بالقلب والثناء عليهم باللسان بما أسدوه من المعروف والإحسان. - الترضي عنهم والترحم عليهم والاستغفار لهم تحقيقًا لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}. - الكف عن مساوئهم التي إن صدرت عن أحد منهم فهي قليلة بالنسبة لما لهم من المحاسن والفضائل، وربما تكون صادرة عن اجتهاد مغفور وعمل معذور لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل الأرض ذهبًا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيف" أخرجه في البخاري]. قال القاضي عياض في كتابه "الشفا في حقوق المصطفى": "قال الإمام مالك: من شتم أحدًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أبا بكر أو عمر أو عثمان أو معاوية أو عمرو بن العاص؛ فإن قال: كانوا على ضلال وكفر قُتل، وإن شتمهم بغير هذا من مشاتمة الناس نُكِّل نكالاً شديدًا". وقال ابن كثير -رحمه الله- عند تفسيره لآية التوبة {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ}: "فقد أخبر الله أنه قد رضي عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، فيا ويل من أبغضهم أو سبهم أو أبغض أو سب بعضهم، ولا سيما سيد الصحابة بعد الرسول وخيرهم وأفضلهم، أعني الصديق الأكبر والخليفة الأعظم أبا بكر بن أبي قحافة، فإن بعضا من غلاة الشيعة يعادون أفضل الصحابة ويبغضونهم ويسبونهم عياذًا بالله من ذلك، وهذا يدل على أن عقولهم معكوسة وقلوبهم منكوسة، فأين هؤلاء من الإيمان؛ إذ يسبون من رضي الله عنهم؟! وأما أهل السنة فإنهم يترحمون عمن رضي الله عنهم ويسبون من سبه الله ورسوله ويوالون من يوالي الله ويعادون من يعادي الله، وهم متبعون لا مبتدعون، ويقتدون ولا يبتدعون، وهؤلاء هم حزب الله المفلحون وعباده المؤمنون" انتهى كلام الحافظ ابن كثير رحمه الله. وقال القرطبي في تفسير الآية السابقة {والسابقون الأولون...} فيه سبع مسائل: الأولى: لما ذكر جل وعز أصناف الأعراب ذكر المهاجرين والأنصار، وبين أن منهم السابقين إلى الهجرة وأن منهم التابعين، وأثنى عليهم. وقد اختلف في عدد طبقاتهم وأصنافهم. ونحن نذكر من ذلك طرفا نبين الغرض فيه إن شاء الله تعالى. وروى عمر بن الخطاب أنه قرأ والأنصار رفعا عطفا على السابقين. قال الأخفش: الخفض في الأنصار الوجه؛ لأن السابقين منهما... الثانية: نص القرآن على تفضيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وهم الذين صلوا إلى القبلتين ; في قول سعيد بن المسيب وطائفة. وفي قول أصحاب الشافعي هم الذين شهدوا بيعة الرضوان، وهي بيعة الحديبية، وقاله الشعبي. وعن محمد بن كعب وعطاء بن يسار: هم أهل بدر. واتفقوا على أن من هاجر قبل تحويل القبلة فهو من المهاجرين الأولين من غير خلاف بينهم. الثالثة: فقال أبو منصور البغدادي التميمي: أصحابنا مجمعون على أن أفضلهم الخلفاء الأربعة، ثم الستة الباقون إلى تمام العشرة، ثم البدريون ثم أصحاب أحد ثم أهل بيعة الرضوان بالحديبية. الرابعة: وأما أولهم إسلاما فروى مجالد عن الشعبي قال: سألت ابن عباس من أول الناس إسلاما؟ قال أبو بكر، أوما سمعت قول حسان: إذا تذكرت شجوًا من أخي ثقة *** فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا خير البرية أتقاها وأعدلها *** بعد النبي وأوفاها بما حملا الثاني التالي المحمود مشهده *** وأول الناس منهم صدق الرسلا وذكر أبو الفرج الجوزي عن يوسف بن يعقوب بن الماجشون أنه قال: أدركت أبي وشيخنا محمد بن المنكدر وربيعة بن أبي عبد الرحمن وصالح بن كيسان وسعد بن إبراهيم وعثمان بن محمد الأخنسي وهم لا يشكون أن أول القوم إسلاما أبو بكر; وهو قول ابن عباس وحسان وأسماء بنت أبي بكر، وبه قال إبراهيم النخعي. وقيل: أول من أسلم علي; روي ذلك عن زيد بن أرقم وأبي ذر والمقداد وغيرهم. قال الحاكم أبو عبد الله: لا أعلم خلافا بين أصحاب التواريخ أن عليا أولهم إسلاما. وقيل: أول من أسلم زيد بن حارثة. وذكر معمر نحو ذلك عن الزهري. وهو قول سليمان بن يسار وعروة بن الزبير وعمران بن أبي أنس. وقيل: أول من أسلم خديجة أم المؤمنين; روي ذلك من وجوه عن الزهري، وهو قول قتادة ومحمد بن إسحاق بن يسار وجماعة، وروي أيضا عن ابن عباس. وادعى الثعلبي المفسر اتفاق العلماء على أن أول من أسلم خديجة، وأن اختلافهم إنما هو فيمن أسلم بعدها. وكان إسحاق بن إبراهيم بن راهويه الحنظلي يجمع بين هذه الأخبار، فكان يقول: أول من أسلم من الرجال أبو بكر، ومن النساء خديجة، ومن الصبيان علي، ومن الموالي زيد بن حارثة، ومن العبيد بلال. والله أعلم. وذكر محمد بن سعد قال: أخبرني مصعب بن ثابت قال حدثني أبو الأسود محمد بن عبد الرحمن بن نوفل قال: كان إسلام الزبير بعد أبي بكر وكان رابعا أو خامسا. قال الليث بن سعد وحدثني أبو الأسود قال: أسلم الزبير وهو ابن ثمان سنين. وروي أن عليا أسلم ابن سبع سنين. وقيل: ابن عشر. الخامسة: والمعروف عن طريقة أهل الحديث أن كل مسلم رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهو من أصحابه. قال البخاري في صحيحه: من صحب النبي -صلى الله عليه وسلم- أو رآه من المسلمين فهو من أصحابه. وروي عن سعيد بن المسيب أنه كان لا يعد الصحابي إلا من أقام مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سنة أو سنتين، وغزا معه غزوة أو غزوتين. وهذا القول إن صح عن سعيد بن المسيب يوجب ألا يعد من الصحابة جرير بن عبد الله البجلي أو من شاركه في فقد ظاهر ما اشترطه فيهم ممن لا نعرف خلافا في عده من الصحابة. السادسة: لا خلاف أن أول السابقين من المهاجرين أبو بكر الصديق. وقال ابن العربي: السبق يكون بثلاثة أشياء: الصفة وهو الإيمان، والزمان، والمكان. وأفضل هذه الوجوه سبق الصفات; والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح: نحن الآخرون الأولون بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له فاليهود غدا والنصارى بعد غد. فأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن من سبقنا من الأمم بالزمان سبقناهم بالإيمان والامتثال لأمر الله تعالى والانقياد إليه، والاستسلام لأمره والرضا بتكليفه والاحتمال لوظائفه، لا نعترض عليه ولا نختار معه، ولا نبدل بالرأي شريعته كما فعل أهل الكتاب ; وذلك بتوفيق الله لما قضاه، وبتيسيره لما يرضاه; وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. السابعة: قال ابن خويزمنداد: تضمنت هذه الآية تفضيل السابقين إلى كل منقبة من مناقب الشريعة، في علم أو دين أو شجاعة أو غير ذلك، من العطاء في المال والرتبة في الإكرام. وفي هذه المسألة خلاف بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. واختلف العلماء في تفضيل السابقين بالعطاء على غيرهم; فروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه كان لا يفضل بين الناس في العطاء بعضهم على بعض بحسب السابقة. وكان عمر يقول له: أتجعل ذا السابقة كمن لا سابقة له؟ فقال أبو بكر: إنما عملوا لله وأجرهم عليه. وكان عمر يفضل في خلافته; ثم قال عند وفاته: لئن عشت إلى غد لألحقن أسفل الناس بأعلاهم; فمات من ليلته. هكذا يتضح لنا شرف الصحابة الكرام ومكانتهم عند علمائنا علماء أهل السنة، فما أحوجنا إلى الحرص على إنزال سادتنا الصحابة هذه المنزلة في هذا الزمان بالذات ردا على من تعرضوا لسبهم وتنقصهم من المرتزقة المأجورين، الذين يشوهون كل رمز يمت للدين بصلة، والله غالب على أمره. لمزيد من مقالات د . جمال عبد الناصر