طالما أن الغرب وغيره هو الذى شجع وصفق وهلل وما زال يهلل لموجات الربيع العربى والكفاح من أجل الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان، فقد أصبح لزاما عليه، من الجانب الأخلاقى والإنسانى على الأقل، أن يتحمل النتائج، ويفتح أبوابه لعشرات الآلاف من المهاجرين من هذه الدول التى تعرضت للخراب على يد الربيع المزعوم، الذى لا يزال له دراويشه بيننا! من حقنا الآن أن نتحدث بنفس أسلوبهم! ليس من حق أوروبا رفض استقبال اللاجئين، حتى وإن كان عددهم بالآلاف أو بعشرات الآلاف، أو حتى بالملايين، وليس من حق دول القارة البيضاء بناء الأسلاك الشائكة والأسوار والجدران على الحدود التى طالما ظلت مفتوحة بفعل "شينجن"، فلم تتصاعد حدة تدفق اللاجئين إلا بعد أن عانت دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من ويلات الخطاب الغربى التحريضى على حكام هذه الدول، أو بالأحرى على الدول والأنظمة، وكابدت أيضا من مخططات الأطماع والتقسيم. ليس من حق أوروبا وصف هؤلاء المهاجرين ب"غير الشرعيين"، بل هم مهاجرون شرعيون، من حقهم تماما وفقا لمباديء حقوق الإنسان المزعومة التى يصدعوننا بها يوميا أن ينتقلوا للبحث عن عيشة كريمة فى بلد آخر، أو بالأحرى من حقهم الهروب من الموت إلى الحياة، حتى وإن كانت حياة بائسة. ليس من حق دول أوروبا أن تتردد وتتلكأ وتضيع الوقت فى البحث والدراسة والتفكير فيما إذا كان لزاما عليها استقبال هؤلاء المهاجرين أم لا، وليس من حقها التشاجر والتنازع فيما بينها لتحديد من يتحمل عبء المهاجرين، بل يجب وفقا للقوانين الإنسانية أيضا، أن يكون البحث والتفكير فقط فى كيفية التعاون من أجل توزيع المهاجرين الفارين من دولهم بطريقة عادلة ومتساوية، أو بنظام الحصص على الدول الأوروبية القادرة على استقبالهم. الشيء الوحيد الذى يحق لأوروبا فعله، طالما أنها كانت شريكة وشاهدة على خراب دول عديدة، هو أن تؤمن حدودها وأراضيها من احتمالات قدوم إرهابيين على متن قوارب المهاجرين فى البحر المتوسط، على افتراض أننا سنتعامل بجدية مع التقارير المخابراتية التى تحدثت عن زحف مقاتلى "بوكو حرام" من نيجيريا إلى ليبيا ومنها إلى جنوب أوروبا لغزو روما! وعلى مدى أسابيع، تابع العالم بكثير من البرود والسلبية تقارير وسائل الإعلام وصورها المأساوية عن كوارث المهاجرين فى مياه المتوسط وعلى حدود دول البلقان، وفى دول غرب أوروبا، ومعظمهم جاءوا من سوريا إلى ليبيا، ومنها إلى قوارب الموت فى مياه المتوسط، إلى ما يسمى الآن ب"بوابة غرب البلقان" الطريق الوحيد للوصول إلى جنة أوروبا. المئات من الشباب والأطفال والنساء يلقون مصرعهم غرقا أو إعياء فى مياه المتوسط، وآخرون لقوا مصرعهم خنقا فى شاحنة لنقل الدواجن فى النمسا، ومثلهم كادوا يلقون حتفهم فى واقعة مماثلة فى إنجلترا، وغيرهم تعرضوا لاعتداءات فى ألمانيا من مواطنين يقال إنهم من النازيين الجدد الرافضين لوجود غرباء على أراضيهم، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل تتحدث عن تعددية ألمانيا بلا جدوي. دول تبنى أسوارا شائكة على حدودها، وأخرى تلقى القبض على من يصل إلى أراضيها من اللاجئين، وأخرى تمنع دخولهم. كل هذا يحدث ومنظمة العفو الدولية ومنظمة هيومن رايتس ووتش فى غيبوية تامة عما يجرى على حدود أوروبا من أبشع انتهاكات لحقوق الإنسان، تماما مثلما تغمض أعينها عن معتقل جوانتانامو وانتهاكات الشرطة الأمريكية ضد المواطنين السود، بينما تفتح أعينها وتصب اهتمامها على الدفاع عن إرهابيين ومنظمات مشبوهة فى أماكن أخري، وتصدر التقارير الابتزازية مثل التقرير الذى أصدرته هيومن رايتس وواتش قبل أيام عن اليمن. المفوضية العليا لشئون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة ذكرت أن أكثر من 300 ألف مهاجر عبروا المتوسط منذ بداية العام الحالى وحده، مقابل 219 ألفا فى العام الماضي، ومن بينهم أكثر من 2500 غرقوا فى مياه البحر أثناء محاولتهم الوصول إلى أوروبا. المفوضية تقول إن القسم الأكبر ممن يصلون إلى أوروبا هم سوريون يفرون من الحرب فى بلادهم، علما بأن ظاهرة الهجرة غير الشرعية كانت قبل ذلك محصورة على الأفارقة، والذين كان من بينهم قلة من دول شمال أفريقيا. قد تكون دول أوروبا معذورة، سواء بسبب المخاوف الأمنية، أو بسبب قلقها من تشكيل أعباء جديدة على الاقتصاد، أو ربما بسبب مخاوفها من تعرض التركيبة المجتمعية لكثير من الخلل، ولكن دول أوروبا نفسها مطالبة بأن تكون أكثر جدية فى التعامل مع مشكلات ليبيا وسوريا والعراق، لا أن تنفض يدها، وتسعى لفرض قيمها وشروطها على هذه الدول. وختاما، لا يمكن أن تمر علينا مشاهد اللاجئين المأساوية بدون أن نستحضر ما ذكرته القيادة السياسية فى مصر ردا على منتقدى بعض الأوضاع الداخلية بعد 30 يونيو، من أنه لولا هذه الثورة والتغير الذى قام به المصريون، ولم يعجب الغرب، لكان ملايين المصريين الآن مهاجرين غير شرعيين يقفون بالطوابير على أبواب دول أوروبا لطلب اللجوء! فعندما تسقط الأنظمة والجيوش والدول، وتسود الفوضي، تحت مسمى التغيير والحريات وحقوق الإنسان، لن يكون فى المشهد سوى دمار فى الداخل، ولاجئين فى الخارج.