كنّا آنئذ فى بدايات سبعينيات القرن العشرين.. كنّا عيالا.. لكن أيامها كان الزمان زمانا بجد.. فكنا- والله- نقرأ! وصدّق أو لا تصدّق.. لقد كان بمدارس الفلاحين مكتبات.. وكان بالمكتبات كتب.. والأعجب أن مدرسيك هم من كانوا يأخذون بيديك، فيقودونك قيادة إلى المكتبة غصبا.. ثم يصرخون فيك: هيا يا بنى فلتقرأ..تمد كفيك كيفما اتفق، تشد كتابا.. تجلس متأففا ولسان حالك يكاد ينطق: قراءة إيه وزفت إيه.. عاوزين نلعب كورة! تشدك صورة الغلاف؛ امرأة بين ذراعى رجل وفى عينى كليهما حب.. أتراهما يمارسان فعل الحب؟ تنفعل.. فتقرأ العنوان» قصر الشوق».. وتحت العنوان اسم؛ إنه نجيب محفوظ. تقلب الصفحات فيدق قلبك دقا عنيفا؟ ما هذا الكلام اللذيذ الأخّاذ الكتوب يا ترى؟ آآآآه.. لقد ندهتك النداهة يا حلو.. ندّاهة نجيب محفوظ الطاغية. آآآآه.. لقد شدّتك الدوامة يا بطل؛ تلك الدوامة التى من منها يقترب سوف يحترق بنار القراءة المقدس إلى الأبد. يجلجل جوّاك صوت لا تدرى من أين أتى: يا صاحبى أهلا بك فى عالم نجيب محفوظ الساحر. هيا هيا.. فقد دلفت إلى «تكيّة» العاشقين فأصبحت واحدا من المريدين؛ مريدى عميد الرواية العربية بلا منافس! تخطفك الصفحات اختطافا فتلهث خلف كمال أحمد عبد الجواد، ذلك الرومانسى العاشق الذى أحب ابنة الأثرياء ففشل. يصدمك فشله (الذى تحسبه فشلك أنت).. تصرخ معه بعلو الصوت: «الذين يحبون لا يتزوجون».. وتدمدم لنفسك:» الإنسان حقا مخلوق قذر»! تكبر رويدا رويدا ويكبر معك عشقك للعميد.. فتدور تبحث كالمجذوب عن مزيد من فيض المتعة.. فجأة؛ ترى نفيسة، وتعايش إحباطها، وإحباط طبقتها المسحوقة( التى أنت واحد منها!) فقيرة دميمة مهانة تبحث عن الحب المستحيل.. لا تجده.. فتسقط فى بئر الرذيلة ، وتقتل نفسها.. ثم يقتل أخوها هو الآخر نفسه. آآآآه يا حسنين.. لم- ولن- تنجح يا حضرة الضابط فى ركوب ( الطبقة) التى سعيت جاهدا- يا أهبل- لركوبها! وتكتشف أنت أن بداية الفقراء هى حتما نهايتهم فلا مكان للفقراء هنا! تدفن رأسك فى وسادتك وتبكى حزنا فتراودك نفسك عن نفسها وتتذكر قول أبى نواس: داونى بالتى كانت هى الداء.. لن يشفيك من نجيب محفوظ يا فتى إلا نجيب محفوظ نفسه.. فهيا إلى رواية أخرى. تمد يدك فيتقافز أمامك أحمد عاكف؛ ذلك الكهل البائس اليائس، الغارق فى قراءة كتب لا معنى لها متصورا أنه مثقف. يحب الحبيبة الشابة( كالدنيا) فتحب هى أخاه.. لكن أخاه يموت بالسل.. آه يا نجيب.. أتميت الشاب ليبقى الكهل يلعق أساه! لماذا تحزننا هكذا دائما يا أستاذ؟ يجيب نجيب: هذه هى حال الدنيا( دنيا الله) فلا تطمحوا إلى المزيد. تترنح أنت كالدب الجريح- أنت يا من أدمنت حزن التكيّة- فتقع عيناك على حميدة، وحظها الأسود فى زقاق المدق، ودعارتها المضطرة إليها اضطرارا. تموت حميدة فتهرب أنت مستغيثا: يا ناس.. ألا من مهرب من تكيّة الأحزان تلك؟ يتلقفك سعيد مهران، ذلك العامل الجاهل البسيط ضحية المثقفين الكذابين الأفاقين؛ أصحاب الشعارات والقلب الأسود. يتحول سعيد على أيديهم إلى لص فى دنيا الكلاب. تجرى وتجرى، فتسمع ثرثرة التائهين الضائعين فى عوامة عم زكى أنيس ، يبتسم فيحدثك بفم مسطول.. ويسألك: أتعرف يا بنى لماذا خلق الله الأرض كروية؟ كى تدور الجوزة معها..فتدور هى على الجميع. تسرع هاربا من العوامة.. فترى محجوب عبد الدايم ذلك المعدم ، الذى رغب فى ممارسة لعبة الانتهازيين الكبار فلم ينجح.. وسقط على ركبتيه تحت ساقى إحسان شحاته هاتفا هتافه المأثور «طظ»!