ميزة اللغة أنك تستطيع أن تعبر وتقرأ بعضا من الجمل دون أن تقرأ النص بأكمله. هكذا استطاع نجيب محفوظ أن يرتفع إلي مكانة هذا الساحر العجيب الذي أذاب الكون كله في كلمات وصهر المشاعر واظهرها واضحة في سطور تكاد تكون بللورية يمكن أن يطل الواحد منا من خلالها علي مستقبله أو أو يقرأ ماضيه. ومنذ أن أهداني المهندس ابراهيم المعلم المجموعة الكاملة من روايات نجيب محفوظ، وأنا أغوص فيها من جديد. لقد قرأت كل حرف كتبه نجيب محفوظ من قبل، وكنت أخشي علي المستوي الشخصي الاقتراب منه، لأني ما أن احب احدا حتي اتحول إلي مريد خصوصا في دنيا الكلمة، وقد حرصت علي ألا اقترب من نجيب محفوظ ومحمد حسنين هيكل، فكلاهما شمس ساطعة من شموس القرن العشرين ويملكان من القدرة علي الكشف بصورة لم يسبقهما إلي مكانتهما احد في التاريخ الحديث، واظن أيضاً ان احدا لم يسبقهما - أي انسان - إلي ما حققاه بالعمل والتفرد، اللهم إلا إذا ذكرنا ابن خلدون علي سبيل المثال لا أكثر ولا اقل. وحرصت ايضا علي الابتعاد بأميال عن الدوران في فلك يوسف ادريس هذا القلق المندهش في رحلة الغوص داخل النفس البشرية والتاريخ الكوني، ويكفيه رواية واحدة ومسرحية واحدة كي يحققا له ما لم يتحقق لأي كاتب، وأعني بها شاعرية رواية البيضاء، ومسرحية الفرافير، فقد انجذب إلي تاريخ الحب وعلاقة الشرق بالغرب في رواية البيضاء، وقرر تلخيص عجز البشرية عن إلغاء تبعية انسان إلي اخر من خلال "الفرافير" واعود الان إلي قراءة نجيب محفوظ كجمل منفصلة ومتصلة، فها هي "اصداء السيرة الذاتية" تضيء وجداني بسطور قد تبدو بسيطة ولكنها تختزل حكمة يشع ضوؤها منها حتي يفسح أمامي طريق الخروج من اية احزان، واتأمل ما فيها من معان يكاد الانسان معها يضحك علي الوضع البشري، وعلي سبيل المثال، حين يحكي عن رجل في الستين تزوج أيام الشباب امرأة صارت في السبعين، ويحلم ان يطير من واقعه فيشتري كل يوم ورقة ياناصيب ويقول "رحمتك يا رب" وتنظر اليه الزوجة العجوز وهي تقول نفس الكلمة "رحمتك يارب" وكأن الرحمة التي ينتظرها هي الثروة كي يهرب من اسر العجوز التي ترعاه ماديا وكأن الرحمة من وجهة نظرها ان تظل الثروة بعيدا كي لا يهرب من قفص الطمأنية الذي تعيش معه فيه، فأي منهما سيحصل علي الرحمة المبتغاة؟ لا يقول نجيب محفوظ من منهما الذي فاز فكل منهما خاسر رغم التواجد مع حلم انتظار الرحمة. ويبقي أن أقول ان اكرم ما ناله نجيب محفوظ هو ان الاجيال الجديدة تستطيع ان تقرأه في طبعة انيقة نظيفة، غير الطبعات السابقة التي كانت تعتمد علي رص الحروف علي الورق دون جماليات صناعة الكتاب، وهو ما حققه ابراهيم المعلم بتلك الطبعة الجديدة من كتب الروائي الجليل.