منذ عام 1899 يحتل هذا المبنى الضخم تلك البقعة من الارض فى قلب القاهرة تماما.. هذه المساحة التى تصل الى 11 الف متر مربع، تحمل فوق سطحها الآن وبعد مرور 116 عاما ، مجرد مبنى »عجوز« يمثل بقايا زمن، نتلهف على سماع حكاياته وتخيل حفلاته والتحسر على أناقته، كانت مصر فيه قبلة لعشاق الجمال.. وخلال 30 عاما فقط- وهى فترة قصيرة بالقياس الى عمره- تحول الى مكان ميت ومهجور إلا من المحال والورش التى يصل عددها الى 297 محلا. تاريخ إنشاء فندق الكونتننتال فى 10 ميدان الاوبرا يشوبه بعض الالتباس، حيث تتضارب الاقوال بشأن سنة إنشائه، حتى قيل انه استضاف ضيوف حفل افتتاح قناة السويس فى 1869، إلا أنه بالبحث، تبين أنه بنى فى نفس المكان الذى كان يشغله فندق ضخم آخر هو «نيو هوتيل» بعد أن تم هدمه. ووفقا لموسوعة «مدينة القاهرة فى ألف عام» للدكتور عبد الرحمن زكي، فقد أسس الفندق رجل يوغسلافى سنة 1899، واحتل موقعا بارزا فى السياسة المصرية، اذ كان من رواد بهوه الرئيسى الزعيم سعد زغلول، وأحمد زيور باشا - رئيس الوزراء فى عشرينيات القرن الماضي، وعدد آخر من أبرز الساسة فى ذلك الزمان.. بل انه من إحدى قاعات هذا الفندق، قام الملك فؤاد باعلان الملكية و استقلال مصر عن انجلترا فى مارس 1922. وقبل ذلك كان مقرا لاقامة الضابط الانجليزى توماس ادوارد لورانس الشهير ب»لورانس العرب» عندما وصل مصر للمرة الاولى فى ديسمبر 1914، بينما شهد احد أجنحته وفاة اللورد «كارنارفون» عام 1923، وهو ممول أبحاث هاورد كارتر مكتشف مقبرة توت عنخ امون، وكان كارنارفون عائدا لتوه من الاقصر،وداهمه مرض غامض قيل إنه بسبب لدغة إحدى الحشرات هناك. خيوط التراب «تحقيقات الاهرام» زارت الفندق، وما إن خطونا داخل بهوه »العتيق« الذى يكسوه التراب، استقبلنا أفراد الامن المكلفون بالحراسة، امامهم جهاز تليفزيون وبعض أكواب الشاي.. استقبلونا بحالة من التوجس، رافضين الحديث إلا بعد أن حضر مديرهم، الذى أكد لنا انه غير مصرح له بالادلاء بأى معلومات، إلا بتصريح من رئيس مجلس ادارة الشركة المصرية للسياحة والفنادق «ايجوث» المالكة للفندق، وهو الرد الذى يتلقاه كل من يأتى للمكان بهدف عمل الابحاث التاريخية، أو من الاجانب المهتمين بالتراث المصري.. بعد نقاش طويل، تمكنا من التجول فى الداخل، ليصدمنا حجم الدمار والخراب والكآبة التى حلت على المكان بقاعاته الواسعة، التى تحتفظ بمسحة من فخامة قديمة. وبالطبع قوبل طلبنا بالتصوير بالرفض القاطع لعدم حصولنا على موافقة بذلك. تواصلنا مع سمير حسن- رئيس مجلس ادارة الشركة المالكة- الذى رفض السماح لنا بالتصوير داخل الفندق بدعوى الخوف على سلامتنا، وانه لا يستطيع تحمل مسئولية تعرضنا لاى أذي، فى الوقت الذى واجهناه فيه بوجود مكتب للتطعيمات داخل الفندق ويعمل به عدد من الموظفين وقد رأيناهم عند خروجهم بعد انتهاء عملهم، الا انه انكر ذلك, غاضبا من إلحاحنا، مؤكدا أن المكتب تم اغلاقه! سألناه عن سبب التدهور الحاد الذى لحق بالفندق، فأرجع ذلك الى أنه « أصبح خارج الخدمة منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي، بسبب عدم استيفاء شروط تجديد الرخصة الفندقية، وتلك الشروط كانت تتطلب اجراء تعديلات انشائية معينة، فعلى سبيل المثال، كانت توجد غرف بلا حمامات، لكن تعذر اجراء تلك التعديلات بسبب سوء حالته وطريقة بنائه. ويتابع رئيس الشركة المالكة لعدد من الفنادق التاريخية مثل كتراكت وسيسيل و مينا هاوس وغيرها:»بالطبع بعد خروج الفندق من الخدمة ساءت حالته أكثر، خاصة مع زلزال 1992 ، وحدثت انهيارات بين الطابقين الثانى والثالث.. وبعد دراسات فنية وهندسية متعددة استقر الامر على أن المبنى آيل للسقوط ولا يمكن ترميمه، لكن لان المبنى مسجل ضمن المبانى المميزة معماريا وفقا للقانون 144 لسنة 2006، فقد تم الانتهاء الى الابقاء على الواجهة وترميمها، مع هدم جسم الفندق وإعادة بنائه على الطراز القديم، وهو أمر يحدث فى كثير من الفنادق التاريخية على مستوى العالم». وعندما سألناه لماذا تم الانتظار كل هذه المدة حتى خرج الامر عن السيطرة، ولم يعد هناك جدوى من الترميم، تعلل من جديد بعدم القدرة على عمل اى تجديدات أو إضافات بسبب طبيعة مواد البناء وكلها من الخشب والحجر، فضلا عن مستأجرى المحال والورش الذين يرفضون المغادرة لحين الانتهاء من الترميم، ثم العودة لاحقا، مشيرا الى انهم كانوا أمام معادلة صعبة وهى المحافظة على مبنى تاريخي، لكن بشرط ألا يتم اتهامهم فيما بعد بإهدار المال العام، اذا ما تم إنفاق الملايين وفشلت عملية الترميم . وكشف رئيس الشركة عن انه كان من المقرر ان يعتمد مجلس الوزراء قبل ثورة يناير قرارا بشان الهدم، لكن تجمدت الامور لمدة أربع سنوات، وهم ينتظرون صدور القرار الان للبدء فى التنفيذ، وان كانت العقبة المتمثلة فى مستأجرى المحال الذين يرفضون المغادرة مازالت قائمة، رغم ما عرضته الشركة عليهم من منحهم اماكن بديلة مؤقتا. الإهمال أدى لسحب الرخصة على الجانب الاخر فند سمير غريب - الرئيس السابق للجهاز القومى للتنسيق الحضاري- كلام رئيس الشركة المالكة قائلا إن الفندق بدأ فى التدهور منذ اوائل السبعينيات لغياب الصيانة اللازمة، وبناء على هذا التدهور تم سحب الرخصة، وليس العكس .وأضاف:» إذا كانت الشركة تدعى أنه -إنشائيا- لا يتحمل أى اضافات، فالرد ببساطة هو أن الفندق يتميز بالمتانة انشائيا بدليل انه قائم حتى يومنا هذا منذ بنائه فى اواخر القرن التاسع عشر رغم كل ما أصابه من دمار داخلي، فأساسه قوى لانه بنى بطريقة الحوائط الحاملة وهى أقوى طريقة فى البناء ، وما حدث أنه تم إهمال المياه المتسربة ،فأدى ذلك الى هبوط الارضيات والاسقف، بينما ظلت الجدران سليمة لأنها من الحجر». ويحكى غريب أنه فى أثناء رئاسته للجهاز وتحديدا فى عام 2008، تفقد الفندق مع الدكتور على عبد الرحمن- وكان مستشارا إنشائيا للشركة- وتم تشكيل لجنة علمية انتهت إلى أن الترميم لن يكون قابلا للتنفيذ من الداخل، فضلا عن أن الغرف والممرات الحالية ضيقة جدا بمقاييس التصميم فى الزمن الحالي،كما أوصت اللجنة بطرح مشروع إعادة البناء مع الحفاظ على الملامح المعمارية، فى مسابقة عالمية للحصول على أفضل عرض. ويرى غريب أن مشكلة الفندق لا تتمثل فقط فى التدهور الانشائي، وانما فى حجم الاشغالات، فأصحاب المحال يرفضون المغادرة، ومن وافق منهم طلب فى المقابل مبالغ تعويض ضخمة، وأنه إذا تم تجديد العرض الآن عليهم، أى بعد مرور سبع سنوات، فستتضاعف المبالغ المطلوبة. لذلك فهو يحسم الأمر بضرورة خضوع مشروع هذا الفندق لقانون المنفعة العامة، مثل شق الطرق واقامة الكباري، ليتم اخلاء الفندق تماما. تشويه كامل د.سهير حواس- مستشار محافظ القاهرة فى مشروع إعادة الوجه الحضارى للقاهرة الخديوية- كشفت عن أن المبنى الحالى للكونتيننتال قد شهد تعديلات عديدة على مر الزمن ،ففى نهاية الاربعينيات أزيلت الشرفة الكبيرة «التراس» وأقيم بدلا منها مجموعة من المحال ، كما تأثر المبنى أثناء حريق القاهرة فى عام 1952 وأدخلت عليه الكثير من التعديلات ، ولهذا فالمبنى لم يتم تسجيله كأثر، لأن به اجزاء كثيرة غير أصلية ، بينما تم تسجيله ضمن المبانى المميزة معماريا فى عام 2007 ، ضمن مستوى الحماية «ج» الذى يسمح بهدم ما خلف الواجهات. وتتذكر حواس ممر الكونتننتال فتقول «نحن الجيل الذى تربى على التنزه فى هذا المكان بأرضياته الرخامية الناعمة، ومحال الحلويات الفاخرة، أما الآن فمداخل الفندق لا تكاد ترى من حجم الاشغالات، وتتابع:» فى واجهة الفندق من ناحية شارع 26 يوليو سنجد »فاترينات« للمحال على ارتفاع 4 أدوار، فتدهورت الواجهة الخلفية تماما، بالاضافة الى سوء الاستخدام للضلع الشمالي، الذى كان عبارة عن شقق خدمية للعاملين بالفندق، لكن تم تأجيرها فيما بعد من قبل المالك، كورش ومحال، وبالطبع مع اساءة استخدام المبنى وغياب الصيانة كان من الطبيعى أن نصل الى هذا التدهور». وتعتقد حواس ان تدهور الفندق كان نتيجة حتمية لتدهور محيطه، فهناك مشروع مترو الانفاق وما نجم عنه من تقسيم للمنطقة والتعدى على حديقة الازبكية وجراج السيارات الذى تم بناؤه فى الارض التى كان مقامة عليها دار الاوبرا الخديوية، فشوه المنطقة تماما وطابعها ، لكن يجب البدء فى وضع تصور لاعادة هذا الفندق لبؤرة الاهتمام، وعلى الشركة المالكة ان تبدأ فى تعويض مستأجرى المحال تعويضا عادلا، فمشوار الاخلاء سيتطلب وقتا. وتشدد حواس قبل البدء فى مشروع الهدم لاعادة البناء على ضرورة مراعاة تسجيل أسماء القاعات الحالية، و التوثيق الكامل للعمارة الداخلية للفندق،وقالت:» اذا لم يقم أحد بذلك فأنا أفكر جديا فى عمله بنفسي، فهناك جداريات قديمة يعود عمرها الى الخمسينيات، يجب الحفاظ عليها لاعادتها لمكانها لاحقا، بالاضافة للحفاظ على »ريسبشن« استقبال الضيوف القديم، اى الحفاظ على كل ما من شأنه تحقيق الربط التاريخى بين المبنى الجديد والقديم، حتى لا يفقد المكان روحه التاريخية، وسيظل المبنى مسجلا حتى بعد اعادة البناء لوجود أجزاء أصلية منه، وبالطبع ستتم اعادة البناء على نفس الطراز بنفس الارتفاع والتصميم الخارجي.