يعرف كل من درس فى كلية الآثار بجامعة القاهرة الاستاذ الدكتور عبد العزيز صالح رائد علم المصريات، الذى منح علم المصريات ملامح قومية بصورة كبيرة فقد كانت شجاعته تكمن فى أن مؤلفاته التى حملت آراء جديدة بل وفيرة كتبت بلغة عربية رصينة، ولم يقلد غيره فى الكتابة بلغة أجنبية ثم ترجمة ما يكتب إلى العربية، أو يكتب بلغة اجنبية ويتجاهل حق المصريين فى معرفة تاريخهم الوطني. فى قاعات الدرس بجامعة القاهرة كنا ننصت باهتمام بالغ لهذا الاستاذ العبقرى الفذ، الذى يرى العلم طريقا ومنهجا.. تعلمنا منه أسلوب الحوار العلمي، اخرجنا من طور طلاب المدارس الثانوية إلى طلبة يقرأون قبل المحاضرة فى موضوعها، ليكون محلا للنقاش معه. ترفع عن الصغائر فنال احترام الجميع, حتى صارت هيبته هيبة العالم, ومعها العديد من القيم كالشموخ واحترام النفس والذات . ولد الدكتور عبد العزيز صالح فى 13 مايو 1921م وتوفى فى 20 يوليو 2001م.. ثمانون عاما قضاها بين البحث والدراسة.. اجرى العديد من الحفريات الاثرية كان ابرزها فى عين شمس، إضافة إلى مؤلفاته, خاصة كتبه مثل «التربية والتعليم فى مصر القديمة، والشرق الأدنى القديم، وحضارة مصر القديمة وآثارها»، والأخير لم ينشر منه غير جزء واحد، لكنه على الرغم من صدوره منذ فترة ليست بالقصيرة لم تتقادم عليه المعلومات، وعلى الرغم من ان هذا الكتاب من أروع وأفضل ما كتب باللغة العربية عن حضارة قدماء المصريين، فإنه لم ينشر فى مكتبة الاسرة إلى الآن، أو يقرر ككتاب لطلبة المدارس الاعدادية او الثانوية بدلا من الكتب الغثة التى لا تحمل إلا معلومات ناقصة أو مغلوطة. فالكتاب فى جزئه الاول يستهدف تصوير الخطوط العريضة لمصرنا القديمة بأسمائها ولغتها وتكوين شعبها وروابط المصريين المعاصرين بها، ونشأة الحضارة على أرض مصر منذ فجر التاريخ، حيث كون عبد العزيز صالح صورة عامة مترابطة لتطور الحياة السياسية والإدارية والعقائدية و الاقتصادية والفنية والادبية، وعلاقات مصر الخارجية، حتى نهاية الألف الثالث قبل الميلاد، ليكمل هذه الحقب فى الجزء الثانى فيمتد بتاريخ مصر حتى نهاية العصور الفرعونية فى أواخر القرن الرابع قبل الميلاد، اما الجزء الثالث، الذى اعتبره فريدا من نوعه، فقد خصصه عبد العزيز صالح للحياة الفكرية القديمة بمعتقداتها وفلسفاتها وآدابها وعلومها وتنظيماتها الادارية بتفصيل غير مسبوق. بينما يتناول الجزء الرابع آثار مصر القديمة بمعناها الواسع، بسماتها المدنية والدينية والأخروية، وفنونها التصويرية والزخرفية والتشكيلية، فضلا عن ادوات الحياة اليومية عند قدماء المصريين. هذه الموسوعة فى رأيى اعتبرها افضل من موسوعة الدكتور سليم حسن، وإن كانت لم تنل حظها من النشر كاملة، وحق على وزراء لهم علاقة مباشرة بالفكر والثقافة مثل وزير الآثار ووزير التربية والتعليم ووزير الثقافة ان يسعوا جاهدين لنشرها، لان هذا حق المصريين عليهم فى ان يعرفوا تاريخهم كما يجب. كما ان اسرة هذا الراحل العظيم عليها ان توفيه حقه بأن تسعى لنشر إنتاجه العلمى الذى لم ينشر بعد . كان الدكتور عبد العزيز صالح عضوا فى مجمع اللغة العربية بالقاهرة، وشغل منصب عميد كلية الآثار فى جامعة القاهرة بين عامى 1977-1981م، وحصل على جائزة الدولة التشجيعية عام 1962م، ووسام العلوم والفنون من الطبقة الاولى عام 1963م، وجائزة الدولة فى العلوم الاجتماعية عام 1987م. وقد تخطت دراسات الدكتور عبد العزيز صالح مصر، حتى أنه فى كتابه «الشرق الأدنى القديم» قدم دراسة وافية عن حضارة بلاد الرافدين فى العصور القديمة، والتى عدها علماء الآثار العراقيون افضل ما كتب عن هذه الحضارة من قبل علماء غير عراقيين، ونتائج دراساته لحضارة العراق كانت مذهلة تخطت فى نتائجها العديد من دراسات الباحثين الأجانب، اما دراساته عن تاريخ شبه الجزيرة العربية فقد عدت أساسا أثبتت صحته الاكتشافات الأثرية فى السنوات الأخيرة. هكذا كان هذا العالم الفذ الرائع، الذى افتقدته كأستاذ علمني، لكن آثاره ما زالت باقية... دروس نتعلم منها ومؤلفات ننهل من فيضها.