مازال العرب يعيشون بعمق حالة افتقاد مصر على الساحة الإقليمية منذ ما قبل ثورة 25 يناير، هم يدركون جيدا أن لا أحد تمكن حتى الآن من ملء الفراغ الكبير الذى تركته وراءها طواعية، أو ربما اقتضت ضرورات الداخل منها الانسحاب لاعادة ترتيب أوراقها من جديد. فى غياب مصر عن المنطقة ظهرت قوى أخرى تحاول سد الفراغ الكبير الذى نتج عن تأخرها، لم تنجح هذه المساعي. ظل العرب مفتقدين القاهرة كواحدة من بين حواضرهم التقليدية الجامعة، بعدما غابت بيروت وبعدها بغدادودمشق عن الأفق. ما يريده العرب من مصر هو العودة لممارسة دورها الطبيعى الذى يرونه أحد واجباتها تجاههم فى ظروف تاريخية، تكاد تطوى وجه المنطقة وتعيد بسطه مرة أخرى، لكن بملامح مختلفة. وسط النيران المشتعلة من اليمن إلى العراقوسوريا ولبنان لا تشعر بخطى واضحة لمصر أو تتمكن من رؤية بصمات أصابع خافتة لها. صارت أصابعها مرتعشة. فى كل عاصمة إقليمية يعرف المسئولون ماذا يريدون من المنطقة بالضبط. لم يتراجع فى الرياض الشعور بالريبة تجاه التحركات الإيرانية على الساحة العربية. المسئولون هناك يدركون جيدا أن عليهم الدخول فى معركة لوقف هذه التحركات، ويعلمون أنها معركة مكلفة ويبدون استعدادا صارما لخوض غمارها. قد تتطلب هذه المعركة مواءمات أحيانا مع أنقرة التى تحلم بإعادة أمجاد الخلافة العثمانية. ولا يتوقف الرئيس التركى رجب طيب أردوغان عن الترويج لهذا النموذج الذى لم يعد العالم العربى مستعدا لقبوله. ويدرك أيضا أن قيام دولة كردية على حدوده الجنوبية مع سوريا يعنى وضع تركيا تحت الاقامة الجبرية داخل حدودها. وقد يسقط حلم التمدد الخارجى معها إلى الابد. إيران بدورها لا تعبأ بذلك كثيرا. منذ قيام الثورة الإسلامية عام 1979 يخطط نظام ولى الفقيه الذى أسسه آية الله الخمينى حينها لتصدير الثورة الإيرانية وخلق محور شيعى يصل بنفوذ طهران إلى مياه البحر الابيض المتوسط فيما بات يعرف ب«الهلال الخصيب«. بعد مرور أكثر من ثلاثة عقود صار الهلال بدرا، اقترب نفوذ الإيرانيين من عدن جنوبى اليمن وكاد يتحكم فى مضيق باب المندب. ما ليس واضحا حتى الآن هو ما تريده مصر من المنطقة، لا أحد يعرف بالضبط ما هى الأهداف الإستراتيجية العليا للدولة على مستوى الإقليم، لأنها لم تتحرر من حالة الدفاع المستمرة ولم تتحول بعد إلى أخذ المبادرة. جميع القوى الرئيسية، بما فيها إسرائيل، صارت تعرف جيدا ماذا تريد من منطقة مشتعلة ورمال لم تعد ثابتة تحت أقدامها. هذه الحالة الدفاعية أسهمت فى عودة الإسلام السياسى مرة أخرى ليكون الورقة الرابحة فى صراع القوة فى الشرق الاوسط. ودول خليجية لم تتعلم الدرس وبدأت تعيد التفكير فى حمل عصا الإسلاموية بشقها السنى من جديد. إيران فى المقابل لم تتراجع عن مشروعها المبنى أصلا فى جوهره على توظيف الإسلام السياسى الشيعى فى العراق ولبنان والبحرين وأخيرا فى اليمن لتحقيق أهدافها الاستراتيجية وربما المذهبية أيضا. ليس معقولا أن تسخر مصر إمكانيات ضخمة فى محاربة جماعات الظلام الإسلاموى فى الداخل، ولا يكون لديها تأثير كبير على تغيير مسار هيمنة تلك الجماعات على المناخ الإقليمي. تراجع دور مصر عندما لم تتمكن من خلق بديل آخر غير الجماعات الإسلامية، يتمكن حلفاؤها من خلاله خوض غمار معاركهم دون إغفال مصالحها. باستثناء ليبيا ذات الأهمية الإستراتيجية القصوى، لم تتمكن مصر من خلق هذا البديل فى اليمن مثلا. ومصر تعلم أن حزب الإصلاح التابع للإخوان الرابح الأكبر من قصف الحوثيين وحليفهم الرئيس السابق على عبدالله صالح. ولا يبدو أن هناك توجها لخلق طرف ثالث من الممكن التعويل عليه لمنع اليمن من العودة إلى الانقسام، وإحكام السيطرة من خلال هذا الطرف على مدخل قناة السويس البعيد عند باب المندب. تعلم مصر أيضا أنه لا مفر لها من التعامل مع الإسلاميين المتشددين مستقبلا فى دمشق. ولا تدعم مصر أيا من فصائل المعارضة المسلحة هناك، وبالقطع لا يمكن لها أن تكون داعما أو مساندا لنظام الرئيس السورى بشار الأسد، الذى بات مدركا أن بقاءه فى السلطة مسألة وقت. فى الحقيقة تحاول مصر منع الإخوان المسلمين من كسب موطئ قدم مهم فى مرحلة ما بعد سقوط الأسد. لكن استبعاد الجماعة من مستقبل سوريا لا يكون فقط بتجاهلهم فى المؤتمرات والندوات وجلسات النقاش التى تنظمها مصر للمعارضة بين الحين والآخر. لا يمكن أن تنجح مصر فى كسب تعاطف قطاعات عريضة بين صفوف المعارضة السياسية أو المسلحة (من غير المتشددين والتكفيريين) حينما يرى هؤلاء المعارضون أنها تريد العودة إلى لعب دور فى قضيتهم عبر دعوة شخصيات وتجاهل أخرى. ليس هذا كل ما يمكن لمصر أن تقدمه، أو كل ما ينتظره منها الآخرون. قد يكون فى صالح مصر أنها لم تتورط فى دعم أى من أطراف الصراع فى سوريا، ولم تلطخ يدها بالدماء المتطايرة فى أجواء الحرب. فى ظروف أخرى كان من الممكن لمصر أن تسارع لتدارك تغيبها عن أكبر قضية سياسية وانسانية تشهدها المنطقة منذ قرون، حينما تكون قد تمكنت من طرح مبادرتها الخاصة التى تخلق بديلا ثالثا يحقق تطلعات الشعب السورى المنهك، وفى نفس الوقت يضمن مصالحها. عندما تدرك مصر بالتحديد ماذا تريد من المنطقة، ستتفهم المنطقة مصالح مصر الاستراتيجية. لا مجال للبقاء فى خندق المدافع، بينما يسرع الآخرون الخطى نحو المنطقة العربية المثخنة بالدماء من أجل القضاء عليها والبدء بتجميع الغنائم. العرب ينتظرون من مصر الكثير، والمصريون أيضا. لمزيد من مقالات أحمد أبو دوح