ليس عيبا أن يخطئ المرء, ولكن العيب أن يستمرئ الخطأ ويستبيح المعصية, فإذا أبصر المرء عيبه وتاب إلي الله منه قبل الله توبته ومحا خطيئته, كما قال تعالي: وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدي, طه:82]; ولهذه الأهمية القصوي للتوبة وتأكيدا علي فضل الله الواسع في قبول التائبين إليه, أوردت لنا سنة النبي صلي الله عليه وسلم بعضا من القصص في هذا الجانب; منها قصة الكفل, فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال:سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول:كان الكفل من بني إسرائيل لا يتورع من ذنب عمله,فأتته امرأة فأعطاها ستين دينارا علي أن يطأها, فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته أرعدت وبكت,فقال: ما يبكيك؟ أكرهتك؟ قالت: لا, ولكنه عمل ما عملته قط وما حملني عليه إلا الحاجة, فقال: تفعلين أنت هذا وما فعلته؟ اذهبي فهي لك, وقال:والله لا أعصي الله بعدها أبدا,فمات من ليلته,فأصبح مكتوبا علي بابه: إن الله قد غفر للكفل, رواه الترمذي وحسنه657/4,والحاكم في المستدرك283/4 وصححه الذهبي]. فهذا رجل أسرف علي نفسه في الخطايا ولم يكن يتورع عن ذنب عمله,ثم أدركته رحمة الله وهو في سبيل ارتكاب فاحشة يجل خطرها وهي الزنا, فلما تاب.. تاب الله عليه,ومن عليه بالفضل وأعطاه كرامة تشهد بصلاحه وتقواه,حيث مات من ليلته فأصبح مكتوبا علي بابه:إن الله قد غفر للكفل. وتعلمنا القصة أن الواجب علي المسلم إن وقع في ذنب أن يبادر إلي التوبة والندم والاشتغال بالتكفير بحسنة تضادها; فأما التوبة فهي عبارة عن ندم يورث عزما وقصدا ورجوعا إلي الله والطمع في رحمته. وكلما كان الندم أشد كان تكفير الذنوب به أرجي,وعلامة صحة الندم, رقة القلب والشفقة علي الخلق, والتماس الأعذار للناس, خاصة الضعفاء منهم وأصحاب الحاجة. وبهذا الندم يصدق العزم في التوجه إلي ترك هذا الذنب,فإن لم تساعده النفس في العزم علي ترك الذنب لغلبة الشهوة فقد عجز عن أحد الواجبين المترتبين علي الندم, فلا ينبغي أن يترك الواجب الثاني وهو أن يدرأ بالحسنة السيئة فيمحوها, والحسنات المكفرة للسيئات إما بالقلب وإما باللسان وإما بالجوارح, فأما بالقلب فليكفرها بالتضرع إلي الله تعالي في سؤال المغفرة والعفو, وأما باللسان فبالاعتراف بظلم النفس مع الاستغفار فيقول:رب ظلمت نفسي وعملت سوءا فاغفر لي ذنوبي,سنن البيهقي33/2] وكذلك يكثر من ضروب الاستغفار المأثورة. وأما بالجوارح فبالطاعات والصدقات وأنواع العبادات. ومن أهم ما يجب تداركه في التوبة الحقوق المتعلقة بالعباد,فمن تناول مثلا مالا بغصب أو خيانة أو غش في معاملة فيجب أن يفتش عمن ظلمه ليستحله أو ليؤدي حقه له أو لورثته,وليحاسب نفسه علي القليل قبل أن يحاسب يوم القيامة, فمن لم يحاسب نفسه في الدنيا طال في الآخرة حسابه,فإن عجز فلا يبقي له طريق إلا أن يكثر من الحسنات بقدر كثرة مظالمه, فهذا طريق كل تائب في رد المظالم الثابتة في ذمته. وأما أمواله الحاضرة فليرد إلي المالك ما يعرف له مالكا معينا,وما لا يعرف له مالكا فعليه أن يتصدق به,فإن اختلط الحلال بالحرام فعليه أن يعرف قدر الحرام بالاجتهاد ويتصدق بذلك المقدار. وأما الإساءة إلي الناس باللسان والوقوع فيهم بالغيبة فيجب عليه أن يعتذر إلي كل من تعرض له بلسانه أو آذي قلبه بفعل من أفعاله, فمن وجده وأحله بطيب قلب منه فذلك كفارته, ومن مات أو غاب أو تعذر استحلاله فقد فات أمره ولا يتدارك إلا بتكثير الحسنات;لقول الله تعالي:(إن الحسنات يذهبن السيئات)(هود:114). وبذلك تعلم أن للتوبة ثلاثة شروط: أن تندم علي الذنب,وأن تقلع عنه,وأن تعزم علي ألا تعود إليه ثانية,وإن كان متعلقا بحقوق العباد رددت الحق إليهم. وإذا استجمعت التوبة شرائطها فهي مقبولة بإذن الله, فإن نور الحسنة يمحو عن وجه القلب ظلمة السيئة, كما لا طاقة لظلام الليل مع بياض النهار, قال تعالي:{غافر الذنب وقابل التوب},غافر:3], وقال سبحانه:{وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات},الشوري:25], وقال صلي الله عليه وسلم:إن الله عز وجل يبسط يده بالتوبة لمسيء الليل إلي النهار, ولمسيء النهار إلي الليل حتي تطلع الشمس من مغربها,صحيح مسلم2113/4], وقال صلي الله عليه وسلم:التائب من الذنب كمن لا ذنب له,سنن ابن ماجه1419/2]. ومن مهمات التائب إذا لم يكن عالما أن يتعلم ما يجب عليه في المستقبل, وما يحرم عليه حتي يمكنه الاستقامة. فاللهم بصرنا بذنوبنا لنرجع إليك, واجعل لنا من كل ذنب طريقا للفوز بما لديك. المزيد من مقالات د. علي جمعة