فى تمام الساعة الثانية وخمس دقائق يعلن الرئيس «عبدالفتاح السيسى» بدء افتتاح قناة السويس الجديدة. وهو نفس التوقيت الذى عبرت فيه القوات المسلحة المصرية قناة السويس فى حرب أكتوبر 1973، واجتازت هذا المانع الذى وصف بأنه أكبر مانع مائى فى التاريخ، ونفذت من الساتر الترابى بعد أن نسفته بتكنولوجيا مصرية صميمة، وبدأت معارك الدبابات الكبرى فى سيناء والتى دمرت فى اللحظات الأولى من المعركة عشرات الدبابات الإسرائيلية. والسؤال المهم هنا ما هى الدلالة الرمزية لاختيار الرئيس «السيسى» افتتاح القناة الجديدة فى نفس توقيت عبور القوات المسلحة فى حرب أكتوبر 1973؟ الدلالة الرمزية تكمن فى أن الذى يجمع بين المناسبتين التاريخيتين الإعجاز المصرى الذى يكشف عن طاقات الإبداع الكامنة فى الشعب المصرى. فى حرب أكتوبر الذى عبر عن هذه الطاقة الإبداعية هى القوات المسلحة، لأن العبور العسكرى الفذ كان نتاج إعادة بناء القوات المسلحة بعد حرب 1967 وتولى مجموعة من الضباط العظام القيادة تحت رئاسة الرئيس «أنور السادات» الذى أصدر القرار التاريخى بالعبور، لتحرير الأرض المصرية المغتصبة من دنس الاحتلال الإسرائيلى. غير أن هذا العبور العسكرى الجسور لم يكن ليتم بغير مساندة شعبية فائقة عبرت عنها جماهير الشعب بمختلف فئاته حين رفضت الهزيمة فى عام 1967 وعبرت عن ذلك فى رفضها تنحى الرئيس «جمال عبدالناصر»، وكلفته بأن يواصل المسيرة وهكذا نفذ أوامر الشعب وشرع فى حرب الاستنزاف تمهيدا للعبور. أما عن افتتاح القناة الجديدة فى 6 أغسطس فإن الذى عبر حقيقة هو الشعب المصرى الذى التف حول القيادة التاريخية «لعبدالفتاح السيسى»، والذى باعتباره وزيرا للدفاع قاد القوات المسلحة ليساند بجسارة الانقلاب الشعبى على الحكم الديكتاتورى لجماعة الإخوان المسلمين. ليس ذلك فقط ولكن الشعب استجاب لطلب «السيسى» إعطاءه تفويضا كاملا لمحاربة الإرهاب. وحين طرح «السيسى» مشروع القناة الجديدة طرح أسهمها للاكتتاب الشعبى، وفوجئ العالم بأن الشعب المصرى غطى تكاليف إنشائها فى أسبوع واحد بعد أن تراكمت فى خزينة الدولة بلايين الجنيهات. ومعنى ذلك كله أن الشعب المصرى هو الذى عبر هذه المرة ليفتح قناة السويس الجديدة، وأن القوات المسلحة هى التى لعبت دور المساندة الإيجابية، بعد أن أطاعت «أمر» الرئيس «السيسى» بالانتهاء من شق القناة الجديدة فى عام واحد وليس فى ثلاثة أعوام كما كان مقدرا. وهذا يعد فى الواقع بإجماع الخبراء العالميين- معجزة فى مجال الإنجاز التنموى ليست له سابقة مماثلة فى شق القنوات الصناعية فى العالم. والسؤال هنا ما هى الدلالة العميقة لهذا الإنجاز الشعبى العسكرى غير المسبوق؟ دلالته بكل بساطة أن مستقبل التنمية فى مصر لن يتحقق بغير التلاحم الوثيق بين الشعب بجميع فصائله الإيجابية وبين القوات المسلحة. وقد ثبت بالدليل القاطع أن القوات المسلحة تقدم نموذجا فريدا فى الالتزام وفى احترام المواعيد، وفى الإنجاز بمستوى عالمى من الدقة. وهذه الصورة الساطعة مقابلها صورة معتمة تتمثل فى البيروقراطية المدنية البليدة، وفى الفساد المعمم، وفى العجز الشديد فى مجال مواجهة المشكلات المتراكمة منذ أجيال، وفى انعدام التنظيم الإدارى الكفء، وفى غيبة الخيال التنموى. وقد تكون هذه المفارقة بين الصورة الساطعة والصورة القاتمة هى التى دفعت بعض الأصوات إلى أن تنادى بتسليم المؤسسات الحكومية المدنية لكى تقودها قيادات عسكرية قادرة على الإنجاز، فى ضوء قانون صارم للثواب والعقاب. وإذا كنا لا نوافق على هذا الرأى -مع أننا نحترم مبرراته- إلا أنه لا يمكن تحقيق نهضة تنموية حقيقية بغير اتباع وسائل مدنية ثورية. والنهضة التنموية الثورية التى نقصدها تتمثل فى عديد من الأمور المرغوبة. وأولها على الإطلاق التحديث السريع لنظم الإدارة القديمة البالية، ووضع قانون جديد للخدمة المدنية ينطوى على نظام بالغ الصرامة للثواب والعقاب، يضمن ألا يستمر فى العمل أى فاسد أو كسول أو غير كفء أو غير منتج. غير أنه من الأهمية بمكان استحداث طرق فعالة فى اختيار القيادات الإدارية تضمن أنها تلقت تدريبا مناسبا وعصريا للقيام بوظائفها، مع الاهتمام الشديد بالتدريب أثناء ممارسة العمل، لأن شعار العولمة الرئيسى هو «التعليم مدى الحياة». غير أن النهضة التنموية الثورية لا يمكن لها أن تبدأ إلا بالتخلى عن النظام الديمقراطى الشكلى الذى تتم فى ضوئه الانتخابات البرلمانية والتى جاءت لنا من قبل بكارثة حكم الجماعات الدينية المتطرفة وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين والسلفيين. والتى ستأتى لنا شئنا أم لم نشأ- بطائفة من السياسيين التقليديين المحترفين الذين لا يمكن لهم أن يعبروا لا هم ولا أحزابهم السياسية الوهمية التى لا علاقة لها بالشارع عن النبض الحقيقى للشعب المصرى، ولا عن المصالح الطبقية المشروعة لغالبية جماهير الشعب الفقيرة. وإذا أضفنا إلى هؤلاء حزب «النور» وهو حزب دينى يمثل التيار السلفى المتخلف الذى يخلط عملا بين الدين والسياسة، ويعبر عن رؤية متخلفة للعالم، لأدركنا أننا فى الواقع فى مواجهة كارثة سياسية. ولا نريد لأحد أن يتهمنا أننا نريد إلغاء الديمقراطية فى بلادنا، لأنه سبق لنا فى كتاباتنا أن عبرنا بطريقة علمية موضوعية عن نقدنا لما يطلق عليه فى علم السياسة «الديمقراطية التمثيلية أو النيابية» Reprentative Democracy. وضربنا أمثلة من إيطاليا التى أصبح فيها «برلسكونى» زعيم الفساد والتحلل الأخلاقى رئيسا للوزراء، ثم ثبت فساده وحكم عليه بالسجن. فى هذه الحالة لا يمكن الزعم أن انتخاب «برلسكونى» والذى تم بالطريقة النيابية التقليدية -حتى لو لم تشبه أى شائبة تزوير- كان معبرا عن مصالح الشعب الإيطالى. ونفس النقد وجهناه للديمقراطية الأمريكية المزعومة والتى أدت فى مرحلة ما إلى انتخاب «بوش الابن» نتيجة الصفقات التى عقدها الرأسماليون وأصحاب المصالح الاقتصادية من زعماء الحزب الجمهورى والحزب الديمقراطى. وقد ثبت بما لا يدع مجالا للشك أن انتخابه رئيسا كان كارثة سياسية بالنسبة لأمريكا وللعالم أجمع. غير أن نقدنا ليس سلبيا بل هو نقد إيجابى، لأننا نقترح البديل الديموقراطى الصحيح وهو الاتجاه لتأسيس ما يطلق عليه فى علم السياسة الآن ديمقراطية المشاركة Participatory Democracy وهى نمط جديد بازغ من الديمقراطية يحاول تلافى سلبيات الديمقراطية النيابية، ويؤسس لنظام سياسى يعبر تعبيرا حقيقيا عن طموحات الشعوب. ويبقى السؤال: لماذا لا تحاول النخبة المصرية الأصيلة وليست النخب السياسية المزيفة العمل المنهجى لإبداع «ديمقراطية المشاركة»، ولماذا لا تكون مصر الثورية هى الرائدة فى ترسيخ هذه النظرية؟ ليس لدينا شك فى أن الإبداع المصرى الذى عبر عن نفسه فى حرب أكتوبر 1973 وفى شق القناة الجديدة قادر على الإسهام الإيجابى فى إبداع النظرية السياسية العالمية الجديدة. لمزيد من مقالات السيد يسين