فى السادس من أغسطس الذى يهل علينا بعد أيام سيكون لدينا ما قبل هذا التاريخ وما بعده. سيشكل فاصلاً مهماً فى حياتنا. ولأننى أفكر فى الأشياء مرتبطة بالناس. فإن القناة بالنسبة لى لا تُعد كما يصفها علماء الجغرافيا بتعبيراتهم الجامدة مجرد مجرى ملاحي. لكنها جزء جوهرى من حياتنا ما مر منها وما نعيشه الآن وما هو آت. أعرف أن مكان الاحتفالات بمنصاته الثلاثين قد يتركز فى الإسماعيلية. إنه الاحتفال الذى يصل الماضى بالحاضر ليجعل المصرى ينظر وراءه ويقول لنفسه: ما أجمل تلك الأيام. ويحاول أن يجعل من حاضره امتداداً لماضيه. عبوراً بما يعيشه باعتبار أن التاريخ حلقات متواصلة ومستمرة. ترتبط قناة السويس فى وجدانى بمدن ثلاث: بور سعيد، الإسماعيلية، ثم السويس. وهناك مدن أخرى تُعد جزءاً من المنطقة. لكن هذا الثلاثى شكَّل جزءاً من وجداننا عندما نتذكر القناة وتاريخها وما جرى لها. سواء القناة القديمة أو قناتنا الجديدة التى ستصبح جزءاً من تاريخنا ووجداننا بعد السادس من أغسطس القادم. لهذه المدن مساحة فى حبة القلب أمس واليوم وغداً. فى مواجهة العدوان الثلاثى كانت بور سعيد عنواناً على الكبرياء الوطنية. وأيامها عندما كان الإنسان يقابل مواطناً بورسعيدياً كان ينظر إليه كأنه كائن من نوع خاص. كنت أهمس بمجرد أن أراه: أبقاك الله. بور سعيد جزء من الوجدان الوطني. ما من حرب من حروب التحرر الكبرى إلا وكان لبور سعيد مكان ومكانة فيها. رفضت العدوان الثلاثي. وقفت ضده. ضربت أمثلة للدنيا على الصمود والكفاح وقهر عدوان شاركت فيه إنجلترا وفرنسا والعدو الإسرائيلي. وقالوا عنها فى كل مكان من العالم: ستالينجراد الشرق. لكن المشكلة أن الذاكرة الوطنية مهددة بحالة محو لما فى الذاكرة القومية من وقائع مهمة وتواريخ أكثر أهمية وإلهاء المصريين عن تاريخهم. وتدمير الماضى الحى فى نفوس المصريين. إن الغناء من أساسيات العمران. وان الإنسان الذى لا يستمتع بالغناء ولا يحب الغناء. لا بد وأنه يعانى من خلل ما، لا علاج له. ولو أنه استمع إلى شادية الغناء المصرى والعربى فى النصف الثانى من القرن العشرين وهى تغني: - أمانة عليك أمانة/ يا مسافر بور سعيد/ أمانة عليك أمانة/ تبوس لى كل إيد/ حاربت فى بور سعيد. من يحب الفن لا يمكن أن يتطرف، وأن حب الفن يجعل محب الفنون يحب الإنسان ويقبل على الدنيا ويحافظ عليها ويدافع عنها. وفيلم: بور سعيد. وفيلم: الله معنا. ومن يشاهدهما لا بد أن يدرك أن ملحمة الناس البسطاء الذين صنعوا هذا النصر العظيم الذى بهر الدنيا. لكن يبدو أن هناك حالة من التقصير فى أن يجد المصرى إبداع المصريين بسهولة وبدون تعب. السويس حكاية أخري. مدينة ولا كل المدن. مدينة تلخص وطناً. ذهبت إليها بعد حرب السادس من أكتوبر فى أول يوم تم رفع الحصار عنها، وشاهدت ما لم يتوقع الإنسان أن يراه. وسمعت ما لم تسمعه إذن وأحسست بما لم يخطر على قلب بشر. أعود مرة أخرى للغناء. وأسأل: متى نجد الوقت الكافى لنستمع لأغنية المرحوم محمد حمام: - يا بيوت السويس يا بيوت مدينتى/ استشهد تحتك وتعيشى إنتى/ يا بيوت السويس يا بيوت السويس. كان الشهيد الأول فى 25 يناير 2011 من أبناء السويس. والشهيد الأول للثورة الثانية يناير 2013 كان من أبناء السويس. ويبدو أنه ثمة تعاهد بين المدينة وأبناء المدينة، وفكرة الاستشهاد دفاعاً عن مصر. يبدو أن أرض السويس لم تشبع من الدماء. وكنت أتمنى أن ترتوى بدماء الأعداء إن فكروا فى العدوان عليها. أما دماء أبنائها فيجب أن تكون مصونة. فيكفى ما قدم أهل السويس من تضحيات فى كل حروبنا مع أعداء الوطن. قناة السويس ليست مجرد مجرى ملاحى نحصل على أموال بسبب مرور السفن فيه من الشمال إلى الجنوب ومن الجنوب إلى الشمال. فقبل أن تجرى فيه المياه. كانت دماء الذين حفروا القناة الأولى من فقراء الفلاحين المصريين قد ملأت المجري. إن السخرة فى حفر قناة السويس توشك أن تكون قصة متكاملة الأركان. لم تجد من يكتبها بعد. أعود للغناء. الملاذ الأخير لنا. وما أجمل أن يعيش الإنسان فى مصر ويعاصر الغناء الوطنى العذب الذى رغم أهمية البُعد الوطنى له. إلا أن عذوبته الإنسانية تبقى فى النفس. كما لو كان أغنية عاطفية. وعموماً فإن العلاقة بالوطن. إن بدأت بالعاطفة. ستبقى ما بقى الإنسان حياً: - يا سايق الغليون/ عدى الكنال عدي/ وقبل ما تعدي/ خد مننا وادي/ يا سايق الغليون. مع أن المدن الثلاث عبارة عن حكايات من دفتر الوطن. حكايات من ملحمة الدفاع عن مصرنا العظيمة. وأهل المدن الثلاث لا بد وأن يكونوا فى مقدمة أهل مصر الذين يحرصون على استقرار مصر وحياة مصر وكرامة مصر. وهم الذين قدموا التضحيات الكبرى لنا. وما زالوا يقدمونها. وما زلت أذكر عندما جرى تهجير سكان مدن القناة إبان حرب الاستنزاف. ووصل إلى قريتى البور سعيدية، والسوايسية والإسماعيلاوية. وقاسمونا البيوت ولقمة العيش والحلم بيوم يعودون فيه لبلادهم بعد أن يكونوا قد انتصروا. يومها أدركت أن هذه المنطقة فيها جزء جوهرى من عبقرية المكان المصرى عندما تلتقى مع عبقرية زمان مصر. فينتجان معجزة المعجزات. وفيلم: إسماعيلية رايح جاي. جسَّد العلاقة الفريدة بين المدينة الجميلة، المدينة الكوزموبولوتونية التى تعد عمارتها شاهداً على حلم الخديوى إسماعيل ومن جاءوا بعده بجعل مصر قطعة من أوروبا. لا تسخر من الهدف. لأن حتى هذا الهدف الذى قد لا نتفق عليه. فمصر يجب أن تبقى مصر قبل أى اعتبار آخر. لكن هذا الكلام جعلهم يتركون لنا مدينة تحب أن تتمشى فى شوارعها. وأن تشاهد مبانيها. وأن تصافح بعينيك كل المرئيات فيها. قال عبد الرحمن بن خلدون فى مقدمته العبقرية. إن صناعة الغناء هى أولى صناعات العمران. وان انتهاء صناعة الغناء ينذر بانتهاء العمران نفسه. لمزيد من مقالات يوسف القعيد