عاصرت في لندن فترة صعود رئيس الوزراء الأسبق توني بلير إلي الحكم في أول مايو 1997، وما سبقها من معركة التحديثيين الذين قادهم، ضد المادة الرابعة من دستور حزب العمال، وتغيير هويته من حزب يساري ينادي بالملكية العامة لوسائل الإنتاج إلي حزب يؤمن بأفكار أنطوني جيدينز عن (الطريق الثالث) الوسطي بين الملكية الخاصة والملكية العامة، وهو ما وصفه أقطاب حزب المحافظين في ذلك الوقت (1994) بسرقة بلير لملابس حزبهم. علي أية حال نجحت حركة بلير في استنقاذ حزب العمال من ذلك الطابع اليساري في زمن كان اليسار الدولي يتعرض فيه لأزمة طاحنة بعد انهيار الشيوعية في الاتحاد السوفيتي ودول أوروبا الشرقية، كما أخذت تلك الأزمة التي عاشها حزب العمال والتي تدخل بلير لالتقاطه من قاع بئرها المظلم بعداً أكثر صعوبة بالنجاح الاقتصادي الذي حققته ماجي تاتشر رئيسة الوزراء المحافظة الحديدية وبأفكارها اليمينية المتشددة التي تأثرت فيها بالنظريات الريجانية وفكر نيوت جينجريش رئيس مجلس النواب الأمريكي شديد اليمينية، وتضاعفت تأثيرات ذلك الوضع بوجود قيادة يسارية جداً علي رأس حزب العمال في ذلك الوقت (مايكل فوت) والتي إنزلقت بيساريتها لتفقد أرضية الوسط السياسي والتصويتي التي تحرص عليها الأحزاب البريطانية لأنها تؤهلها للحصول علي تأييد أكبر عدد من خصائل المجتمع. نهايته..جاء بلير وأفكار الطريق الثالث لينقذ حزب العمال ويستعيد بعض الوسطية، ويسلط الضوء علي الثمن الاجتماعي الفادح الذي دفعه البريطانيون لنجاح تاتشر الاقتصادي. اليوم.. بريطانيا في موقف مشابه فبعد سقوط أد مليباند زعيم حزب العمال في الانتخابات العمومية السابقة (مايو الفائت) واستقالته من زعامة الحزب، المنافسة- الآن- علي زعامة العمال وفي استطلاعاتها للرأي يتقدم صفوفها جيرمي كوربن اليساري جداً، مرشح دائرة إزلنجتون (دائرة بلير زمان) ويأتي بعده أندي برنهام وإيفيت كوبر اللذان يتبنيان موقفاً وسطياً ثم ليز كيندال المتحدثة بإسم الصحة في الحزب وماري كريج المتحدثة باسم التنمية الدولية. وتتبني كيندال موقفاً إصلاحياً، أما كوربين فعاد إلي رطان الحزب التقليدي المتحجر في يساريته علي نحو يذكرنا بخطب الزعيم اليساري طوني بن، أو آرثر سكارجيل زعيم إتحاد نقابات الفحم الذي خاض معركة تاريخية ضد تاتشر. الدلائل تشير إلي أفول مشروع بلير الحزبي والفكري، وهو ما قد يعيد بريطانيا في نظر بلير نفسه عشرين سنة إلي الوراء. فهل تكون بريطانيا هي أرض معركة الحسم بين اليسار ويسار الوسط عبر انتخابات قيادة حزب العمال؟ لمزيد من مقالات د. عمرو عبد السميع