عشية ثورة 23 يوليو وغداة ثورة 30 يونيو، لنتذكر أن سوء القصد قبل عمق الجهل هو ما يفسر ترديد فرية انقلاب 23 يوليو ثم انقلاب 3 يوليو، وهى فرية تبددها حقيقة أن انحياز الشعب للجيش قد صنع ثورة 23 يوليو، من قبل، وأن انحياز الجيش للشعب قد صنع ثورة 30 يونيو، من بعد. وكانت الثورتان استمرارا لتاريخ حافل بكل دواعى الفخر، وليس فيه ما يشين قط، كان فيه جيش مصر هو جيش الأمة المصرية؛ على نقيض جيوش بلدان عربية شقيقة تمزقت شعوبها وجيوشها بين قبائل وطوائف وأعراق ومذاهب، فتمكنت مؤامرة التمكين والتفكيك من تحويل ربيع ثورات شعوبها الى خريف انهيارات دولها. وفى قراءة تاريخ جيش مصر، أسجل، أولا، أن الشهداء من جند مصر، الذين دفعوا أرواحهم من أجل تحرير التراب الوطنى المحتل، وحولوا انكسار يونيو 1967 الى انتصار أكتوبر 1973، قد انضموا الى صفوف خير أجناد الأرض، الذين قدموا أرواحهم على مدى آلاف السنين، فى معارك تحقيق وحدة الدولة وتكوين الأمة المصرية، وحماية حدود واستقلال وطننا العظيم مصر ومقاومة ودحر غزاته، واستعادة وتعزيز وحدة الدولة والأمة حين اعترتها عوامل التفكك بعد ثورة أو غزو. وتكاملت صفوف شهداء التحرر الوطنى، مع صفوف شهداء دفعوا أرواحهم من أجل العدالة الاجتماعية، بدءا من شهداء أول ثورة اجتماعية فى التاريخ قبل نحو 4200 سنة، فجرها هدر أواخر فراعنة الدولة القديمة لماعت- العدل والحق والصدق؛ ومرورا بشهداء ثورات المصريين ضد الظلم والنهب والقهر والطغيان فى عصور مصر الوسيطة والحديثة، وحتى شهداء ثورة 25 يناير ضد نظام أهدر حقوق المصريين فى العيش والعدل والحرية والكرامة، وشهداء ثورة 30 يونيو ضد نظام هدد وجود مصر وطنا ودولة وأمة وهوية. وثالثا، أن وحدة مصر كانت مدفوعة الثمن من شهداء قدموا أرواحهم فداء لتأسيس الدولة وتكوين الأمة. ونعرف من سليم حسن- فى موسوعة مصر القديمة- أن الآثار تسجل حروب التوحيد فى زمن ما قبل الأسرات، ومنها لوحة الملك نارمر الشهيرة، التى تصوره بتاج الوجه القبلى ضاربا العصاة والخوارج من سكان مدن الدلتا، حتى تحققت الوحدة تحت سلطان الملك مينا، الذى نراه بتاجى الوجه القبلى والوجه البحرى، الأحمر والأبيض. ونعرف من هنرى بريستيد- فى فجر الضمير- أن الجماعات المحلية المصرية توحدت تدريجياً، وكان أول اندماج تألفت به أمة واحدة وتأسيس حكومة مركزية قوية تعد أقدم نظام إنسانى معروف يضم عدة ملايين من الأنفس، نحو سنة 4000 ق.م. ومع عصر الأسرات تألف الاتحاد الثانى، وأشرق فى مصر لأول مرة على كرتنا الأرضية أول برهان على أن الإنسان أمكنه الخروج من الوحشية إلى المثل الاجتماعى الأعلى، دون أن يكون للمصريين أجداد متحضرون يرثون منهم أية ثقافة، وفى وقت كانت فيه أوروبا لا تزال تعيش فى همجية العصر الحجرى!!. ورابعا، أن مصر بقيت محروسة ومستقلة بعد ميلادها، بفضل بطولات وتضحيات جندها البواسل. وحفاظا على استقلال مصر، وتحت قيادة الملك مينا وخلفائه، قام جيش مصر بصد غارات سكان غرب مصر الزاحفين على الدلتا، حتى خضعوا بعد أن هزموا هزيمة منكرة، وترك لنا الملك نوسر رع من الأسرة الخامسة لوحة فى وادى المغارة نقش عليها: قاهر الآسيويين من كل الأقطار!! ولم يكتمل توحيد واستقرار مصر إلا بعد أن امتدت سيطرة الدولة المركزية لتشمل النوبة حتى حلفا. واستمر ملوك مصر يراقبون عن كثب حركات الأقوام والقبائل ويتصدون لغاراتهم، التى كانت تهدد مصر من أطرافها، من حين لآخر. وفى زمن التكوين كان يتم التجنيد من مقاطعات مصر وبقيادة حاكمها لمساعدة الملك وقت الحرب. ولما تولى زوسر حكم البلاد فى الأسرة الثالثة بدأ تكوين جيش وطنى مصرى، ثابت ومنظم، نهض بمهمة كبح جماح أى عصيان أو ثورة داخلية تهدد وحدة الدولة، حتى قضت على كل مقاومة محلية للدولة المركزية الموحدة، ولكن بقيت حماية مصر من غارات الأجانب أهم مهام الجيش. وخامسا، أن شعب مصر كما سجل جمال حمدان- فى شخصية مصر- كان دائما شعبا محاربًا كما كان شعبا بناءً, يبنى بيد ويحارب بالأخرى، وكانت كلمة الدفاع هى الكلمة المفتاح؛ لأن مصر الغنية كانت تغرى بالطمع فيها، بينما لا تجد فى محيطها الفقير ما يغريها بالعدوان، فكانت تحارب وتغزو وتتوسع طوال التاريخ للدفاع؛ كانت دائما شعبا محاربا دون أن تكون دولة محترفة حرب, مدافعا لا معتديا. وبعد العصر الفرعونى, لم يستكن الشعب المصرى ولا استسلم أبدا فى مواجهة الاستعمار, ولا انقطعت مقاومته الإيجابية والسلبية. ولم يحدث أن دخل مصر غاز أجنبى أو أقام بها كنزهة عسكرية هينة بلا ثمن باهظ من الدماء والخسائر الفادحة بل والانكسارات المحققة أحيانا، ولم تنقطع ثورات التحرير المصرية ابتداء من الإثيوبيين والفرس وحتى المماليك والترك. وقد انفردت مصر بالزعامة الإقليمية لأطول مدى معروف أو ممكن: معظم العصور القديمة، ونصف العصور الوسطى تقريبا. وحتى حين احتكر حكامها الأجانب السلاح, كانت حروب مصر وانتصاراتها فى الداخل والخارج تتم بجيش جسمه الأساسى من المصريين وقوامه الأول الفلاح المصرى. فالمقريزى لا ينفك يذكر الجند المصريين فى قوات ابن طولون ثم الإخشيديين. وفي حروب الأيوبية والمملوكية مع الصليبيين والمغول كان الجندى المصرى عصب القوة المحاربة خلف قيادة الفرسان المماليك. ونعلم من المقريزى أن سكان المدن وقتئذ كانوا يصنعون أنواع السلاح جميعا ثم يشتركون في المعارك الحربية الكبري ضد الحملات الصليبية الثلاث على مصر. والجنود المصريون هم الذين أبعدوا العثمانيين عن أرض الشام وتتبعوهم حتى شاطئ البوسفور، وأنشأوا ملك مصر الشاسع فى عهد محمد على. لمزيد من مقالات د. طه عبد العليم