شرفت بدعوة هيئة البحوث العسكرية لحضور ندوة الجيش والشعب علي مر العصور, ببحوثها الرصينة, وبلقاء الفريق صدقي صبحي رئيس هيئة أركان القوات المسلحة, وسماع كلمته, الواعية بقدر مصر; فتداعي الي ذهني أن التاريخ المشرف للجيش الوطني المصري لا يدرس ولا نقرأه في قصة مشوقة; تسجل انتصاره لإرادة شعبه; من فجر توحيد مصر بقيادة مينا, وحتي تحريرها من حكم الإخوان بقيادة السيسي. وتتضاعف أهمية إعادة زيارة تاريخ مصر والمصريين, من هذا المنظور, مع تواتر عبارة( حكم العسكر), المحملة بذم مقيت, منذ رفعت جماعة الإخوان وحلفاؤها هتافهم المسموم بأن يسقط حكم العسكر!! كراهية في ثورة يوليو, وتقسيما للأمة المصرية, وخداعا لاختطاف ولاية مصر. وتردد الصدي, حافلا بجهل محزن, بواسطة بعض شباب ثورة25 يناير; غضبا من إخفاقات المجلس العسكري السابق بقيادة طنطاوي وعنان; الذي لم يستوعب معني الثورة, ورضخ للضغوط الأمريكية, وساهم في تمكين جماعة الإخوان حتي اختطفت الثورة والحكم. وبعد تصحيح القوات المسلحة بقيادة السيسي وصبحي لهذه الأخطاء; بانتصارها لثورة30 يونيو, كان طبيعيا أن يرتد الإخوان عن هتافهم المنافق: يا مشير أنت الأمير!! الي صيحتهم النكراء: يسقط حكم العسكر, ومعهم فوضويون ومصابون بالبلاهة الليبرالية وأسري للتمويل الأجنبي. وأسجل أولا, حقيقة أنه إذا كانت مصر المكان هبة النيل, فان مصر المكانة هبة المصريين. ونقرأ لأشرف غربال في تكوين مصر ما سجله توينبي; متحدثا عن دور القلة الخالقة في نشأة الحضارة, يقول: إن المصريين الأوائل مع شعوب أخري واجهوا تحول مناخ جزء من افريقيا وآسيا نحو الجفاف. وكان هذا هو التحدي, وتباينت الاستجابة. فمن الأقوام من لم ينتقل من مكانه ولم يغير من طرائق معيشية, فلقي الإبادة والزوال جزاء إخفاقه. ومنهم من استبدل طريقة معيشته, وتحول من صيادين إلي رعاة رحل. ومنهم من رحل نحو الشمال ومن انتقل صوب الجنوب. وأخيرا, منهم من استجاب لتحدي الجفاف بتغيير موطنهم وطرائق معيشتهم معا, وكان هذا هو العمل الإرادي الفريد للمصريين الأوائل, الذين خلقوا مصر كما عرفها التاريخ, حين هبطوا إلي وادي النيل, وأخضعوا طيشه لإرادتهم, وحولوا المستنقعات إلي حقول تجري فيها القنوات والجسور, وأبدعوا حضارتهم الرائدة. وثانيا, أن وحدة مصر, أمة ودولة, كانت مدفوعة الثمن بدماء جندها البواسل. ونعرف من بريستيد في فجر الضمير, أن الجماعات المحلية توحدت تدريجيا حتي كونت أول مجتمع مؤلف من ملايين يحكمهم ملك واحد, فقامت أول دولة متحضرة كبيرة وحكومة مركزية قوية, واستمر هذا الاتحاد الأول بضعة قرون. ونعرف من موسوعة مصر القديمة إن الآثار تدل علي قيام حروب داخلية مستمرة حتي قام الاتحاد الثاني; فتحققت وحدة مصر النهائية في زمن الأسرات, بقيادة الملك مينا. وبقيت مصر مستقرة ومستقلة بفضل جيشها الوطني, الذي صد غارات سكان غرب مصر علي الدلتا حتي خضعوا بعد هزيمة منكرة. وفي لوحة بوادي المغارة في سيناء يظهر الملك نوسر رع وهو يضرب الآسيويين, ومنقوش عليها: قاهر الآسيويين من كل الأقطار. واكتمل التوحيد والاستقرار بعد شمول سيطرة الدولة المركزية للنوبة حتي حدود السودان. وثالثا, أن الجيش الوطني المحترف قد تأسس مع بدايات عملية تكوين الأمة المصرية. فقد كان حاكم كل مقاطعة يقود جندها لمساعدة الملك وقت الحرب; ولما تولي الملك زوسر حكم البلاد في الأسرة الثالثة, بدأ يكون لمصر جيشا ثابتا منظما ومحترفا, نهض بمهمة كبح أي عصيان أو ثورة تهدد وحدة الدولة; ولكن بقي أهم ما عني به هو حماية حدود مصر. ويقول لنا الملك والقائد العسكري سنوسرت الثالث, قبل أربعة آلاف سنة, في لوحة سمنة الثانية عند حلفا: إن الرجل الذي يركن الي الدعة بعد الهجوم عليه يقوي قلب العدو, ومن يرتد- وهو علي الحدود- جبان حقا.. وكل ولد أنجبه ويحافظ علي هذه الحدود يكون ابني, وألحقه بنسبي, وأما من يتخلي عنها ولا يحارب دفاعا عن سلامتها فليس ابني ولم يولد من ظهري.. وثالثا, أن المصريين فجروا أول ثورة اجتماعية في تاريخ العالم, ليتخلصوا من نير الحكم الظالم. ونعرف من بريستيد أنه قد قام, ولمدة ألف سنة, نظام قومي ثابت الأركان, كان يمثله ويحافظ عليه الفرعون, وهو ماعت; أي العدل والصدق والحق. وحين إنهار ذلك النظام الإداري الأخلاقي, الذي كان الدعامة التي قامت عليها حياة الأمة المصرية القديمة, انحلت تدريجا قوة الأمة الموحدة, وسادت الفوضي البلاد, ومحيت القيم الأخلاقية, وتدفق الغزاة الأجانب للدلتا. وفي هذا السياق, بمقدماته وتداعياته, نقرأ لكاهن من كهنة عين شمس, يقول: إن العدالة قد نبذت, وصار الناس يرزحون تحت عبء الظلم, ولم يكن للرجل الفقير حول ولا قوة لينجو ممن هو أشد منه بأسا, وصارت البلاد في هم, والقلوب بالحزن مفعمة, وانتهي الاحترام, وصار الآمر والمأمور سواسية.. ورابعا, أن انهيار الجيش الوطني كان إيذانا بسقوط الدولة القديمة, حين تقلص تدريجيا, ثم انهار بانحلال كتائبه المحترفة; فتفكك سلطان الدولة المركزية, وانقسمت لإمارات إقطاعية, وعجز حكامها عن إنقاذها مما حل بها بعد الثورة, فسادت الفوضي, وحل الخراب بمؤسسات الدولة, ولا يكاد يظهر حاكم حتي يعزل أو يقتل!! وغزا الآسيويون البلاد وخربوا الدلتا. ويتنبأ حكيم ثم كاهن بأن ملكا مخلصا سوف يقضي علي المغيرين من الخارج, ويصلح النظام في الداخل, ويوحد البلاد, وينشر السلام, ولن يمكن الآسيويين من غزو مصر, وسوف يستسلم الثوار لنصائحه والعصاة لبطشه, ويخضع المتمردون, وتعود العدالة وينفي الظلم, واسمه أميني, وهو اختصار لاسم أمنمحات الأول. وقد كان أن تحقق التنبؤ, أو التبرير, بعد حروب داخلية متوالية, تحت قيادة أمنمحات الأول, مؤسس الأسرة الثانية عشرة والدولة الوسطي, التي كانت عصرا ذهبيا في تاريخ مصر. لمزيد من مقالات د. طه عبد العليم