سيل جارف من الوجوه والأحداث والأماكن والجبال والمقابر .. يقتحم حياتك عنوة من خلال «السيلفي» الذي يجتاح وسائل التواصل الاجتماعي وقدر بمليار صورة حتى الآن خلال عام 2015 .. إدمان ما بعده إدمان .. سجل حافل ممتد يسجل للبشرية كل لحظات الفرح والحزن والانكسار والحب والفشل وحتى الموت كما سنرى لاحقاً .. بعض البشر يتعامل مع السيلفي لتدوين لحظات حياته كما لو كان أشبه بكتاب الملكين لا يغادر صغيرة ولا كبيرة دون أن يحصيها. انتهى عصر قداسة الصورة .. والبورتريه العتيق الذي كان يحرص مصوره على تسجيل الصفة لا الوصف وتتفاوت مهارة كل فنان في مقدرته على الوصول الى جوهر الشخصية من خلال إيماءة أو نظرة أو زاوية معينة .. حين كان الإبداع خروج على العادة وارتقاء فوق كل مألوف .. منذ فترة ليست بقصيرة أصبح العالم يفضل « الكاجوال » في ملابسه وحياته .. يعيش بأسلوبه منفرداً لكن في إطار حميمية الأغلبية بتوجهاتها وأفكارها ولغتها وحتى طعامها وشعاراتها .. في القرن العشرين رٌفع شعار«لا تنس أنك إنسان » حين كانت المبادئ لا تتجزأ والبشرية تفخر بحقوق الإنسان وتعدها تاجاً على جبينها يعزز هذه الأفضلية التي تميز جنسنا الراقي .. ولكن في القرن الحادى والعشرين طالعنا شعار :«الإنسان يعيش مرة واحدة » واختصاره « Yolo » لتبدأ رحلة السير حثيثاً نحو « مركزية الذات « ويشتعل وجدانه مرة أخرى بحلم التفرد والأسبقية والحنين لصفات ملك الغاب الذي يستحوذ على الكم الأكبر من التقدير والإعجاب واللايكات .. فأصيب نتيجة للتكرار والتقليد بتيبس في عضلات الإبداع .. سعى بكل دأب للتخلص من صفة « الأستاذية « في كل المجالات بجموح ولذة وفتنة غير مسبوقة .. نسب طويل من تغيب الوعي والفراغ ومحاولات مستميتة لاغتيال المعنى وتشويش الواقع في كل المجالات .. بل أن المفكر الكبير بودريار .. يرى أن العالم تحكمه هيستيريا « إنتاج » وإعادة إنتاج الواقع .. يومياً يتم التدليل على الواقع بالخيالي وعلى الحقيقة بالفضيحة .. تلك رؤيته في كتابه الشهير « المصطنع والاصطناع » وما يحدث في الإعلام خيال « مقصود » حتى تكون هناك فجوة بينه وبين الواقع .. بهدف إخفاء الحقيقة على الدوام من خلال نظام محكم. مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي .. وانتشار السيلفي إلى الحد الذي دعا منظمة الصحة العالمية إلى إعلان نيتها لإدراجه على قائمة الأمراض النفسية وافتتاح مركز لتوعية الناس من مخاطر إدمانه في موسكو وافتتاح خط ساخن تحت شعار « السيلفي قد يقتلك » حيث تم توصيف حالة الخطر إذا اقترب الإنسان من عدم مقاومة رغبته في التقاط خمس صور يومياً ونشرها على انستجرام أو فيس بوك أو تويتر .. وهو إدمان له نفس العواقب والتأثيرات الكيميائية وإن اختلفت النسب وطرق العلاج .. وحذر « يفيني بريان» المسئول عن هذا الخط الساخن في «موسكو » أن معظم المراهقين يعانون فراغاً في عواطفهم ومشاعرهم وإذا لم يتوصلوا لحل لهذه المشكلة قد يبحثون عن وسائل أخرى تعويضية لإشباع هذا الفراغ ولكن المعضلة تتجلى في صعوبة العلاج من السيلفي .. أن الابتعاد عن الذات من أهم طرق العلاج في معظم الأمراض النفسية .. والتحدي الأكبر الذي يواجه الأطباء أن مدمني السيلفي معظمهم لم يفلت التركيز على الذات ولديهم شيء من النرجسية والإعجاب المفرط بذواتهم. أصبح السيلفي لغة عالمية شأنها شأن لغة الكلام لم تنج أيضا من الانفلات تخضع لما تخضع له اللغة من فنون الإشارة والإيماءة والحركة .. لغة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بلغة الجسد التي نفك يومياً بعض شفراتها التي لا تنضب .. فهل يعد علماء اللغة السيلفي شكلا من أشكال تطور لغة الكلام ولغة الجسد ؟ والأخيرة تكشف مكنون النفس وخلجاتها .. وأحياناً تكون الإشارة أفصح من العبارة – في السيلفي يترك البعض نفسه بتلقائية لتسجيل حدث ما لا يسعفه الحظ بوجود من يوثقه له بكاميرته .. وعلى هذا قد يزم البعض شفتيه أو تنفرج أسنانه عن تلك الابتسامة الشهيرة التي ينقاد لها العالم أجمع بمجرد أن يتلفظ الفنان المصور بكلمة « Say cheese «. كان الجاحظ أسبق الجميع في الإلتفات إلى أهمية لغة الجسد والإشارة .. من مأثور أقواله : « لو أمسك الإنسان يده ولم يحركها .. وتصلب رأسه ولم يحركه .. لذهب ثلث كلامه هباء » جاء في كتابه « البيان » بعض هذه المعاني الجزلة : « بنان تشير إلى بنان – تجاوبتا وما يتكلمان – جرى الإيماء بينهما رسولاً .. فأحكم وحيه المتناجيان » مع التكرار يصعب التجديد والابتكار .. فالببغاء قد يكون فصيحاً لكنه لن يستطيع أن يكون بليغاً. صناع النماذج في كل العلوم والفنون والتكنولوجيا .. امتازوا بقدرتهم الفائقة على التعبير بيقين على أنهم لا يملكون اليقين .. ولكن على أيدي ستيف جوبز وبيل جيتس ومارك زوكربيرج .. خرجت حمم تكنولوجية ملأت الدنيا وشغلت الناس .. ولم ينج من سلبياتها إلا ما رحم ربي ومن سلبية لأخرى تتغذى كل نقيصة في الإنسان على ذاتها ففي آخر استطلاع للسيلفي في ديسمبر 2014 بالولايات المتحدة .. خلصت النتائج إلى أن 36% لم يلتقطوا سيلفي على الإطلاق .. و34% التقطوا صورهم بصحبة العائلة و 29% مع الأصدقاء و19% مع حيواناتهم الأليفة .. أي أن نسبة المستخدمين تتعدى ال 60% .. والأمر مرشح للزيادة مع تلاحق الأحداث والتكرار الآلي للسلوك والذي أصبح يتشابه في سرعته مع طلقات الرشاش هنا بدأ السيلفي يكيل الضربات بصورة متوالية لإحداث الصدمة والحصول على أكبر قدر من التقدير لمجابهة هذا « الوجد الفوتوغرافي » فمن شخص يطارد فراشة تلهو على خط الاستواء .. لحيوانات تواجدت في غير بيئتها .. لإضاءة فاشلة وأياد مرتعشة وتعبيرات مصطنعة وعيون تحدق في الضياع .. بالحاح غير مسبوق لاقتفاء أثر أيقونة السينما العالمية جميلة الجميلات « مارلين مونرو « في صورتها الشهيرة « وجه البطة « لا يهم حدود الملامح وشكل السمات والقسمات العامة للوجه الذي ( يتقنع ) بملامح هذه الجميلة التي لو تصورت بوجه الأسد لكانت فاتنة أيضاً .. لكنها خارج سياق التقييم والمقارنة .. امتلأت الصفحات بوجوه وقعت في منطقة انعدام الظل .. فهي صور باهتة في معظمها تدفنها الذاكرة بمجرد رؤيتها .. وقد لا يعلم الكثيرون أن مارلين التقطت لها هذه الصورة عام 1954 وكانت ترسل من خلالها على سبيل المداعبة قبلة للكاميرا وربما لمن يقف خلف الكاميرا .. ولأن اللقطة تستغرق جزءا من الثانية كانت الثبات على هذا الحال. ولكن أن يتحول السيلفي « لفن اللحظات الحرجة » اقتفاء لأثر مونرو .. بهذا الهوس الجماعي .. لهو أمر أشبه بانتشار الأسلحة البيولوجية .. تدعيم الذاتية .. لا يقل عن تدعيم أي آلية ديكتاتورية تنمو بالنفخ في أبواق الاستبداد – مادياً أو معنوياً خصوصاً في الرأي – هذا عن المفتتح.. أما أن تصل « القدسية الرقمية » لأقدس بقعة في العالم .. وتتزاحم الأكتاف بهوس وولع أمام الكعبة المشرفة .. مولاي إني ببابك قد بسطت يدي وبدلاً من أن ترفع أكف الضراعة بالدعاء : « إنك تعلم ما لا نعلم إنك أنت الله الأعز الأكرم » ، نفاجأ بحدوث هذه المبكيات المحزنات لمن تكبد عناء السفر وواتته مثل هذه اللحظة التي لا توصف في روحانيتها .. وحين تزاحم عصا السيلفي باستهتار وعدم احترام لمكانة كل الفنانين الكبار في المتاحف العالمية لإزاحة بؤرة الاهتمام عن رامبرانت ومونييه ودافنشي وبيكاسو ولوحاتهم الخالدة .. من أجل الحصول على صورة هزيلة لتوثيق لحظة تم اغتيالها بيد مصورها .. فذلك عبث ووباء .. أن يتم السخرية من الرسل والأنبياء وإعادة رسم صورة السيد المسيح في لوحة العشاء الأخير وهو ممسكا بعصا السيلفي الملعون .. والأمر كذلك بالنسبة لسيدنا إبراهيم وموسى .. نحن اذن إزاء غشاوة وغشامة غير مسبوقتين .. أن يتم استخدام ملكة بريطانيا في خلفية صورة لصبي مراهق وأن يرقص أوباما بعصا السيلفي اتباعاً للزاوية الملائمة وأن تخرج علينا كيم كارداشيان لتعطينا دروساً من حكمتها في تصوير السيلفي الذي تعتبر نفسها من مرجعياته .. ليكتشف الشباب والمراهقون أنها التقطت لنفسها ما يقرب من 300 صورة حتى تحصل على الصورة الملائمة .. بخلاف قيام سيدة بتصوير نفسها وفي يدها المسدس قبل انتحارها .. ولم يتبق إلا تحقيق جملة عادل إمام في مدرسة المشاغبين حين قال لسهير البابلي : « شوفتيني وأنا ميت أجنن وأنا ميت». لو أمكن البعض – جنوناً وهوساً – لقفز من نعشه لالتقاط صورة وفاته كل ذلك من أجل الحصول على اهتمام وإعجاب فوري .. وعدم الانتظار حتى نلتقي مع أصدقائنا ومعظمهم أصبحوا افتراضيين .. من أجل أن ينقروا على الكيبورد « Wow .. Amazing » .. يموت الناس والعباد من فوق الكباري ونتخاذل عن إنقاذ غريق أو الاستجابة لاستغاثة مصاب في تفجير أو حادث حريق. السيلفي الآن هو البضاعة الأكثر رواجاً في العالم .. ولكن صدق أساتذة الإعلام حين اخبرونا أن « الوسيلة رسالة بحد ذاتها » .