لا شك عندى إننا فى حالة حرب، وهى حرب جديدة علينا تمام الجدة، بعدها الإقليمى لا يقل خطرا عن بعدها الداخلى إن لم يزد. ليست بالتأكيد كحروبنا مع إسرائيل، حروب جيش فى مواجهة جيش، وليست أيضا كالمواجهة الأمنية مع الإرهاب الجهادى فى تسعينيات القرن الفائت. العنصر الجوهرى فى الحرب الحالية هو الانفلات الكامل وربما النهائى لحركة الاسلام السياسى فى سائر الإقليم، هى حرب تمتد شباكها من الجبال والكهوف فى باكستان وحتى أحراش بوكو حرام فى غرب افريقيا. خطورة الحرب على مصر لا تنبع من قوة العدو، فموازين القوة على حسابه بشكل حاسم وقاطع ولا يقبل الشك، ولعل المواجهة الأخيرة فى سيناء خير دليل، حيث لم ينقض يوم واحد لتصبح "ولاية سيناء" الداعشية فى خبر كان. تعود خطورة الحرب الجارية لسببين أساسيين، أولهما طابعها الإقليمى وضعف وتصدع الدول القومية المحيطة فى المشرق والمغرب، وثانيهما ولعله الأهم، حالة اليأس والجنون التى أصابت الحركة الإسلامية لا فى مصر وحدها ولكن على امتداد العالم الاسلامى كله، وذلك بعد أن نجح الشعب المصرى فى انتزاع الثمرة الكبرى من فمهم وهم يقضمونها واللعاب يسيل ترقبا للابتلاع والهضم. كثيرا ما تعمينا التفاصيل عن رؤية الصورة الأشمل، والأشجار التى أمامنا مباشرة عن ادراك الغابة التى تحيطها، ويشغلنا اليومى عن التعرف على التاريخي. ليس هذا تقليلا من أهمية التفاصيل، فالشيطان يكمن فيها كما يذهب المثل الإنجليزى الشهير، ولكن فهمنا الصحيح، ولعلى أضيف المتزن، لتلك يتوقف على قدرتنا على رؤيتها فى سياقها الأشمل والأعم، أى فى اطار اللحظة التاريخية التى نعيشها. أهم ما يميز هذه اللحظة من تاريخنا الحديث والمعاصرهو أفول وانحدار وتحلل ثنائية الدولة البوليسية/ الدولة الاسلامية التى طغت طغيانا بدا تاما وقاطعا ونهائيا على عقولنا وحياتنا السياسية والاجتماعية والثقافية وحاصر اختياراتنا وقيد ارادتنا لنحو أربعة عقود من الزمان، كما حدد أطر تعامل العالم الخارجى معنا ورؤيته لنا، فصار العرب والمسلمون استثناءً لحركة التاريخ العالمي، وأخذت القوى الكبرى تبحث عن بديل إسلامى "معتدل" لأنظمة بوليسية "شاخت على عروشها" وباتت منبعا للتطرف والإرهاب الدولي. الثورة المصرية ومسلسل الثورات العربية أسقطت الثنائية القبيحة والكؤود تاريخيا. نسيان هذه الحقيقة تحت وطأة الهزائم المتتالية لثورات شعبية كبرى لم تكن مؤهلة بعد للتحقق، هو فقدان لبوصلتنا التاريخية، لموقعنا من التاريخ، وهو خضوع للمساعى المحمومة من قوى الماضى من الطرفين لمحو الثورات المصرية والعربية من العقل والذاكرة كما عملا على محوها على الأرض. المصريون حين نهضوا بملايينهم فى أول ثورة شعبية كبرى منذ 1919 أذهلوا أنفسهم والعالم أجمع، فلم ينتفضوا مطالبين ب"الحكم بما أنزل" وب"تطبيق الشريعة" و"استعادة الخلافة" ولكن بالحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الانسانية، وحتى لا يبقى أدنى شك فى هوية ثورتهم قاموا فى موجات ثورية متتالية بأول إطاحة شعبية فى التاريخ الحديث بحكم "إسلامي" طرح نفسه كتحقيق للإرادة اللالهية فى الأرض وتصور ديمومة 500 عام أو حتى يوم الساعة، أيهما أقرب. لم تتحقق الثورة المصرية والثورات العربية، وربما لم يكن لها أن تتحقق، فقوى الماضى عاتية وقوى المستقبل لم يصلب عودها بعد، ولكن التاريخ قال كلمته ورسم طريق المستقبل ليزرع الرعب فى نفوس قوى الماضى ويدفعها للجنون. ننسى إننا أسقطنا مشروع الحكم الدينى فى بلد القلب فى العالم الاسلامى بأسره، وننسى إننا أسقطنا حكم الإخوان، المنظمة الأم للحركة الاسلامية من باكستان وحتى المغرب. ننسى إننا فعلنا ذلك فى خاتمة أربعة عقود مما سمى ب"الصحوة الإسلامية" شملت صعودا صاخبا وعاتيا للتيار الدينى فكرا وثقافة وسياسة. وبقدر ما ننسى نعجز عن إدراك حقيقة أن ما نواجهه اليوم فى سيناء وفى القاهرة وأنحاء أرضنا المصرية هو رقصة الموت الأخيرة لحركة يزيد عمرها وتوقها للسيادة والسطوة عن 80 عاما، وذلك بعد انتزعنا الثمرة الكبرى من فمها وهى تقضمها ويسيل لعابها ترقبا للابتلاع والهضم. انها حرب إذن، وهى حرب تختلف عن كل ما عهدناه من حروب، خطورة العدو فيها تعود فى المحل الأول ليأسه، فهى عنده حرب وجود، هى معركته الأخيرة. وهى حرب ثمن الهزيمة فيها سبى النساء والأطفال وذبح الرجال وابادة الأقليات الدينية والمذهبية. ومع ذلك يجدر بنا أن نضع الأمور فى نصابها الصحيح. يأس العدو وامتداداته الإقليمية والدولية لا ترقى ولا يمكنها أن ترقى لأن تشكل تهديدا لوحدة التراب الوطنى المصرى ولتماسك الدولة القومية المصرية، وثرثرة الفضائيات بالمخاطر المحدقة وبمصائر سوريا والعراق وليبيا ما هى إلا ثرثرة فارغة ورائها أغراض لا علاقة لها بالمواجهة مع العدو، وكل علاقة بأغراض تتعلق بالنفوذ والسطوة فى الداخل المصري. حالة الحرب فى كل مكان تغرى بالاستخدام، وتغرى بتعميق السلطوية وتشديد قبضة القمع الداخلي، فعلتها أمريكا نفسها بعد 11 سبتمبر وفعلناه نحن لعقود طوال حين استخدمنا الخطر الصهيونى ذريعة للاستبداد الداخلي. وفى حربنا الجارية، ورغم مخاطرها الحقيقية، فلا يسعنا غير أن نلاحظ أن قوى الماضى المباركية وجدت فيها فرصة سانحة للانقضاض على ما تبقى من استحقاقات ورموز وقيم الثورة المصرية، أى الثورة نفسها التى أسقطت مشروع الحكم الدينى من خلال ثورة شعبية لأول مرة فى التاريخ الحديث للشعوب الاسلامية. الحروب تكسب بالعقل لا بالهستيريا والجعجعة ودق الطبول، ولغة العقل فى حرب ضد قوى قوامها الفكرى والسياسى والميدانى هو القهر والذبح والظلامية تعنى أول ما تعنى التسلح للحرب بالحرية، كما دعانا الشاعر منذ سنوات طوال. تكسب بالحرية. لمزيد من مقالات هانى شكرالله