عام مضى على احتلال تنظيم الدولة الإسلامية «داعش» الموصل فى العراق، وتفوق الرقعة الجغرافية التى يسيطر عليها الآن فى العراقوسوريا مساحة المملكة المتحدة، ولا يبدو أن التحالف الدولى الضخم راغب في، أو قادر على، القضاء المبرم على التنظيم الذى يوصم بالإرهاب، والوحشية، والخروج على الإسلام. فى تصريحات نشرتها صحيفة «نيويورك تايمز» اعترف الجنرال مايكل ناجاتا قائد العمليات الخاصة للولايات المتحدة فى الشرق الأوسط بأنه بدأ يتلمس بصعوبة ملامح داعش، وأضاف «لم نهزم بعد الفكرة... لم نفهم بعد الفكرة». وخلال الأشهر الماضية سعت بكثافة الدوائر البحثية والإعلامية الغربية إلى فهم «داعش» ليس فقط بوصفها تنظيما إرهابيا يشكل العمل العسكرى ركنا أساسيا فى مواجهته، ولكن أيضا من خلال القراءة الاجتماعية المعمقة «التحليل السيوسيولوجي» لتكوين «داعش» الاجتماعي: أنماط التفكير، ووسائل التواصل، وآليات الإدارة اليومية، وهى قراءة لازمة لفهم جانب لا نركز عليه كثيرا فى العالم العربى الذى يكتفى بنشر فظائع التنظيم، وهى صحيحة، لكن المسألة تتجاوز فضح الأساليب الهمجية التى يلجأ إليها التنظيم، بحيث تشمل الفهم الاجتماعى المتعمق لتكوينه السياسى والاجتماعى الذى يحكم رقعة جغرافية ممتدة، يفد إليها متطوعون من شتى دول العالم، بما فى ذلك دول الغرب التى أصيبت بصدمة وجود آلاف الشباب والشابات الذين نشأوا، وتعلموا، وعاشوا فى البيئة الغربية، ثم تركوها، وذهبوا للقتال فى صفوف «داعش». استطاع «داعش» أن يجعل للخلافة الإسلامية- حسب ادعائه- إقليما جغرافيا، عماده الجهاد ضد الكفار، اجتذب الذين يبحثون عن مجتمع إسلامى مثالي، والجهاد من أجله. تقارن «كاترين براون»- الأستاذة بجامعة لندن- بين الفتيات الأوروبيات اللاتى سافرن إلى الاتحاد السوفيتى فى الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، والفتيات اللاتى التحقن بصفوف داعش فى العقد الثانى من القرن العشرين، وخلصت إلى أن حلم الحصول على المواطنة فى الاتحاد السوفيتي، وليس القتال كان باعثا أساسيا للسفر إليها، فى حين أن الباعث وراء الانضمام إلى داعش هو المشاركة فى القتال تحت مسمى الجهاد لإنشاء دولة تقوم على مجتمع مثالى يطبق الشريعة، يسوده العدل والمساواة، لا يعرف الفروق الطبقية الحادة، تحكمه شريعة السماء بما يشبه الأفكار المثالية أو اليوتوبيا. هذا التصور الشمولى- فى رأى الباحثة البريطانية- يخالج شعور العديد من الشباب المسلم المهمش الذى يريد أن يعيش تصوراته المثالية عن الحياة. فى السابق أعاد أسامة بن لادن، وخلفه تنظيم القاعدة تقديم مفهوم الجهاد، ونشر خلاياه فى العالم، أما «داعش» فقد خطت خطوة أبعد من ذلك باستقطاع رقعة جغرافية شاسعة، تسيطر عليها، تستقطب فيها المجاهدين، وتنال بيعة التنظيمات الجهادية فى العديد من الدول. تيقن الغرب أن شريحة من الشباب المسلم فى المدن الغربية يعيش حالة اغتراب مع واقعه، لم يٌستوعب ثقافيا، ويتعذب من ممارسات اجتماعية وثقافية تحيط به، لم يقبلها فى إطار التعددية الثقافية. نجحت «داعش» فى تعميم خطابها الدعائى لاستقطاب هؤلاء الشباب، وعلى حد تعبير باحثة غربية أخرى «ميلنى سميث»: تخاطب «داعش» الغرباء فى مجتمعاتهم بخطاب «دولة الخلافة» الذى يخرجهم من العزلة والاغتراب. وبلغ الأمر أن قرر أحد المتحولين جنسيا، وصديقته السفر من الاتحاد السوفيتى إلى سوريا للالتحاق بدولة «داعش» هاربين من الحصار الاجتماعى فى مجتمعهم، متأثرين بالدعاية التى يبثها التنظيم، وذلك حسب تحقيق صحفى نشرته «ديلى ميل» الأربعاء الماضي. بالطبع لا يدرك الشابان اللذان لم يفيقا من الدعاية الداعشية أن مصيرهما هو الإلقاء من مبنى عال عقوبة ممارسة الشذوذ الجنسى فى قانون دولة «داعش». الشباب يبحث عن حلم، تعزز ذلك التحقيقات الاستقصائية فى الإعلام الغربى التى أجريت مع عينة من الشباب والشابات اللذان وجدوا فى «داعش» مقصدا لهم، حيث أشاروا إلى انفصام حاد مع مجتمعاتهم، ورغبتهم فى اكتساب معنى جديد فى الحياة. لم نقرأ فى «داعش» سوى تطرفها، وإرهابها، وممارستها اللا إنسانية، لكن يبدو أن «التحليل الاجتماعي» مطلوب بشدة حتى يمكن أن نفهم لماذا يقبل شباب فى بلاد الغرب والعرب على السواء على الالتحاق بهذا التنظيم، الذى لم يخف وحشيته، بل يفصح عنها، ويجاهر بها، والتفنن فيها. فى ذكرى مرور عام على احتلال الموصل، وصعود زعيم داعش «أبو بكر البغدادي» منبر المسجد الكبير بمناسبة شهر رمضان، أصدر التنظيم فيلما تسجيليا لمدة ثلاثين دقيقة بعنوان «عام على الفتح» قدم فيه صورا من الوحشية التى يلجأ اليها فى القتل، والدمار، والتخريب. يبدو أن الدعاية السوداء تستهوى مغرمين ومهمشين وساخطين يريدون أن تكون الوحشية سبيلهم لتأسيس دولة الحلم التى تستعد الآن لإصدار عملتها حتى تتخلص من عملة «الطواغيت والكفار». التحالف الغربى يبدو غير جاد أو عاجزا عن تفكيك ودحر «داعش» والولايات المتحدة تريد أن يعود لها حضور عسكرى مؤثر فى العراق بعد أن تفككت الدولة إلى طوائف متناحرة، فى صورة ممر من نقاط التدريب والتعبئة فى مختلف المدن العراقية، آملة فى تقديم التدريب، والدعم للجيش العراقي، وحث القبائل السنية على الانخراط فى الحرب ضد «داعش» الذى يتمدد دون أن يكون هناك فى الأفق ما يشير إلى اندحار سريع لها. لمزيد من مقالات د. سامح فوزى